عناصرُ الملعب الجديد..
بدأ المشهد السياسي السوداني يتشكَّل من جديد، بعد الاتفاق الذي تمّ بين المجلس العسكري الانتقالي وقوى إعلان الحرية والتغيير أو بالأحرى جزء منها، وليس بالضرورة طبعاً أن تتكوَّن التركيبة السياسية في البلاد من ذات العناصر الموجودة على السطح الآن، فهناك قوى صاعِدة وأخرى سَتنْزوِي، وتحالفات ناشئة وتكتّلات ستُولَد من رحم التطوّرات الجارية، بينما ستختار أحزاب وكيانات حزبية صِيغاً أخرى وهي تُوقِن بأن البيئة الراهنة لا تُناسبُها وستعمل على تأسيس وجودها أو ميلادها وِفقاً لما تتمخّض عنه العملية السياسية الجارية.
ولعلَّ الديمقراطية الرابعة، وهي تطِلّ برأسها الحاسِر ستكون ذات تحوّلات وانعطافات كبيرة تجعل من السياسة السودانية مَركِباً صعباً يُواجِه أنواءً وعواصف عاتية تتلاطم أمواجه ضاع فيه المجداف والملاح.
مع تغيير أدوات الملعب السياسي ومجالاته وقواعد اللعب نفسها، لن يكون الكيان الحزبي كما هو في السابق ومتعارف عليه إلا في جانبه الشكلي وإجرائيات تكوينه وهياكله، فالوافدات الجديدة في مجال التواصل والتراسل التقني ووسائط الإعلام بشقيه التقليدي والرقمي في الفضاء الإسفيري، ستجعل من السياسة نفسها صوراً غير تقليدية متداخلة تختلط فيها المكونات والعناصر، تجعل من العسير ضبط معاييرها وحركتها وتطوراتها، وبالتالي يصعب حساب نتائجها وتخمين خواتيم أشواطها.
من سجايا السياسة السودانية أنها تُفرز تحدياتها وصعوباتها من واقعها الماثل نفسه، فمع تراجُع فكرة الحزب عالمياً، وحدوث تحوّلات مفاهيمية في العمل الحزبي في أي مكان في العالم، وارتفاع وتائِر أخرى كالشعبوية وظاهرة اللامنتمين السياسية والعزوف الكبير واللافت للشباب عن التكوينات الحزبية، ويقينهم الراسخ بأن الأطر الحزبية لا تُعبّر عن طموحاتهم وأفكارهم وتطلّعاتهم، فإن المُتوقّع أن تتغيّر الخارِطة السياسية بسرعة في غضون الفترة القصيرة، ويُسدَل الستار على التحالفات القائمة الآن حتى عن التحالُف السياسي الذي أصبح شريكاً في الحكم مع المجلس العسكري، وستُحاوِل الأحزاب العقائدية بقوة آصرتها التنظيمية وأطروحتها الفكرية المقاومة والبقاء، لكنها ستكون على الهامش ربما وليس في بؤرة الفعل ودائرة التأثير السياسي، والسبب الرئيس في كل ذلك، أنه لا توجد أفكار واضِحة ومُحدّدة أو توجُّهات سياسية تُقدّم تصوّراً كامِلاً ومُتكامِلاً للقضية الوطنية، وتُبلوِر حلولاً موضوعية لما تعانيه البلاد أو تُقدّم إجابات على أسئلة السياسة والاقتصاد والاجتماع دعك عن الثقافة والفِكر.
إذن ما هو مستقبل العمل الحزبي..؟ في غالِب الظن أن الساحة السياسية السودانية موعودة بتيارين لا ثالث لهما سيكون لهما الصيت والغَلَبة في الفترة القادمة، وهُما:
1/ ستبرز في الفترة المقبلة تيارات مناطقية وجهوية تُعبّر عن قضايا محلية ستستقطب اهتمامات المواطنين أكثر من غيرها، خاصة عندما تركز على الهموم المرتبطة بمصائر وشواغل المواطنين في مناطقهم، خاصة في الولايات ذات الخصوصية أو التي عانت من ويلات الحرب وما يُسمى بالتهميش السياسي والتنموي والخدمي، وستمتد هذه الدعوات الجهوية لكل مناطق السودان الأخرى، خاصة أن هناك كيانات بالفعل قائمة في الشرق والشمال والغرب والوسط، فمع انخفاض الهيجان الثوري في الخرطوم وقيام الحكومة وانشغال الساسة في المركز بقضايا السلطة وتجاذُباتها ستجد مثل هذه التنظيمات الجهوية فرصتها في التعبير عن أولويات المواطنين دون أن تأبه للأيدولوجيا أو ما تلوكه الألسن السياسية في عاصمة البلاد ومركز السلطة.
2/ التيار الثاني الذي قد يلفت انتباه الناس، هو تيار غير مُحدّد ومُؤطَّر في كيان سياسي، إنما هو الحالة العامة التي ستعتري جميع الأحزاب عندما تنشغل بالجو العام الذي سيسود، فتُعلِن جميعها عن توجّهات مُتشابِهة تمثّل رغبتها في مشروع وطني تعميمي غامض الملامح، وغائم التفاصيل، تتسابق الأحزاب فيه بطرح رؤى عامة ذات صِيَغٍ تجريدية لا تلبس لبوساً فكرية، لتصبح موضة تتأنّق بها الأحزاب، فتستمر هذه الحالة من التزيّد والمُزايدة طوال الفترة الانتقالية، ولا تشذُّ نوعاً ما عن هذه الحالة إلا بعض الأحزاب العقائدية التي سيجرفها التيار العام أيضاً ولا تقوى على مُعاندته، فتتساوى مع الأحزاب التقليدية وفسيفساء الفتافيت الحزبية المتكاثرة.
في هذا الجو، لن يكون المجلس العسكري أو قُلْ التكوينات العسكرية المشارِكة في الحكم بعيدةً عن ما يجري حولها، فقد تحتاج إلى ظهير سياسي آخر تستند إليه دون حليفها (الحرية والتغيير) الذي سينشغل بالانتخابات والمستقبل، وقد تتناحَر مُكوِّنات الحلف غير المقدس، فالخيارات ستكون إما التحالُف مع جهة حزبية قوية تضمن الولوج إلى باحة ما بعد الفترة الانتقالية، أو صناعة تكوين سياسي جديد من القوى الاجتماعية والسياسية المتوفرة وما أكثرها لراصدٍ وباحثٍ ساعتئذٍ..