عندما كنا صغاراً كنا نستمتع بمهارات الحدأة أو “الحِديَّة” كما نسمّيها ، مهاراتها في خطف العظم اللاحم من بين عشرات العظام الملقاة، كنا أحياناً نقذفُ به إليها لتلتقطه في الهواء في حركة مهارية وكأنها هازارد أو كانتي أو أغويرو أو إبراهيموفتش في تعاملهم مع الكرة، تذكرتُ “الحِديَّة” وأنا أتابع بعض الهُراء الأسفيري حول ما كتبناه يوم أمس الأول تحت عنوان “مدنيااااو” واجتهدنا فيه بهدوء وموضوعية وعلمية لتجلية مفهوم “مدنية” وأنها ليست المقابل لـ”عسكرية” .
قلنا إن الذين يضعون “المدنية” في مقابل “العسكرية” يُخطئون تماماً في فهم وإدراك معنى مصطلح “دولة مدنية” ومدلولاته، وربما أنهم يفهمون لكنهم يتعمدون إشاعة هذا الخلط والتغبيش لأجل التعبئة والتجييش ومآرب أخرى تخصهم ، ولعل الكثير من المشاكل والاحتقانات والاحتكاكات تنشأ في مثل هذه المحاضن الغامضة التي تتعمد التدليس والتلبيس وتغبيش الوعي ونشر مفاهيم خاطئة علمياً وموضوعياً ومنطقياً، بل تُصادم وتُخالف حتى المثال البشري الذي نتمثل ونستشهد به ونقلده ونتقفى أثره .
أوضحنا أن الحديث عن الدولة المدنية لم يبدأ في ديار المسلمين بل نشأ في الغرب حيث سطوة الفئة الكهنوتية المتحركة والمتمددة باسم الكنيسة، هناك نشأت الدولة الثيوقراطية “الدينية” التي تتحدث وتفتي وتحكم باسم “الحق الإلهي”، دون وجود شرائع شاملة متكاملة تسندها نصوص قطعية الثبوت والدلالة، وفي ظل تعدد “الأناجيل” بات الثيوقراطيون يتحكمون ويظلمون ويفسدون ويرتكبون الفظائع باسم “الرب” فنبتت فكرة “الدولة المدنية” وتبنتها المجتمعات المتأذية من تلك الممارسة المسيئة للدين والإنسان .
قلنا إن الدولة المدنية تقوم على فصل السلطات الثلاث وهي بذلك دولة الأمان والسلام والطمأنينة والعدالة والتسامح وقبول الآخر والتساوي النسبي في الحقوق والواجبات، دولة تحافظ وتحمي وتُؤمِّن حقوق جميع أعضاء المجتمع دون التمييز بينهم على أساس الدين أو العرق أو المهنة أو غيره، وأوضحنا أن الدولة المدنية لا تعادي الدين بل ترفض استخدامه لتحقيق مآرب سياسية، ونبهنا إلى أن طبيعة الدين الإسلامي كدين شامل ومتكامل تختلف عن غيره من “الأديان” فيما يتعلق بمصادر وضوابط التشريع والمعاملات.
الحدآت “الحِدَيَّات” الأسفيرية تركت كل ذلك المضمون، بل ربما لم تطلع عليه من الأساس، واختطفت عنوان المقال “مدنياااو” ووظفته كمادة للسخرية والتندر والمناكفة، ولا غرو ولا عجب إذ أن الذين اعتادوا التزلف والتكيُّف والتلوُّن السياسي كما الحرباء يتوهمون أن كل صاحب قيم ومبادئ هو مثلهم قابل للتحربُن والبيع والشراء، يا لبؤسهم ويا لبؤس من تنطبق عليه ظنونهم، العاقل لا يتحرج في استخدام أي مصطلح طالما أنه يُعبِّر تحته عما يراه حقاً وصواباً.
لا استبعد أن تقوم حدأة من ذات الفصيلة بخطف هذا المقال أيضاً بناء على عنوانه “عسكريااااو”، والذهاب به إلى وكر الذباب الإلكتروني الأعمى والأصم، لتشريحه وتحريفه وتوظيفه وتحميله ما يشتهون من المعاني والإشارات، السيد الفريق أول حميدتي قال: “دخلنا إلى المفاوضات كشركاء وخرجنا منها فريقاً واحداً” تصريح شفيف ومسؤول ويُعبِّر عن روح وطنية إيجابية ينبغي أن تسود و”تَهِد” فينا جميعاً إذ “لا غالب ولا مغلوب” طالما أن القضية وطن، علينا أن نتجرد ونترفع ونوجه طاقاتنا وجهودنا وخبراتنا لما ينفع البلاد والعباد .