في ولاية كسلا..”التقزُّم” مشكلة منسية
كسلا– عفاف عبيد محمد فضل
مَشاهدٌ وصورٌ يندي لها جبين الإنسانية، صورٌ تكشف عدم مبالاة الإنسان لأخيه، مشاهد تحكي كل معاني العوز والفقر والمعاناة، صور ومشاهد مأساوية، هذه الصور والمشاهد ليست في بلد أنهكه الحروب والصراعات كاليمن والصومال، إنها هنا في السودان في هذ البلد الذي نتغنى به ونفخر ونقول حتى (الطير يجبيها جعان من أطراف تقيها شبع) ، هذه الصور ليست في أصقاع السودان، إنها من ولاية كسلا ومن قلب المدينة ومن داخل مستشفى كسلا التعليمي الذي يقع على مرمى حجر من سوق المدينة ، مشاهد وصور تقع على بصر كل عابر أمام المستشفى، مشهد لعدد من نساء المنطقة وهن يحملن أطفالهن يظهر عليهن ضعف وهزال، ضعف لا يقوى على حمل أجسادهن، ناهيك عن حمل تلك الأطفال الأضعف وإشباعهم وإرضاعهم، إنه الفقر والعوز الذي لم يجعلهن قادرات على توفر لوازم التغذية الكافية من لبن الأم، مما أدى ذلك الى عدم تغذية أطفالهن وإشباعهم بما يتطلب من تغذية وبناء أجسادهم بما يكفي من الغذاء لوقايتهم من أمراض سوء التغذية وامراض الطفولة.
(ح ع م) واحدة من مئات النساء تشكي أن ابنها (علي) الذي لم يتجاوز عامه الخامس، يُعاني من سوء التغذية الحاد الذي نجمت عنه صعوبات جمة وجعله عرضة لحالات متلازمة من الالتهابات والأمراض، وذلك على حد ما أخبرها الأطباء.
ويقول الدكتور محمد يعقوب اختصاصي الأطفال (ان سوء التغذية يتسبّب في العديد من المشكلات الصحية، أبرزها يتمثل في عدم نمو الأطفال بالشكل الصحيح)، وقال إن سوء التغذية عادةً ما يتأثر به الأطفال نتيجة لعدم حصولهم على لوازم التغذية الكافية من لبن الأم ووسائل التغذية الأخرى التي يحتاجوها الجسم، لنموهم والبناء بما يقيهم من الأمراض، وأضاف ان من العوامل الأساسية التي تؤدي الى سوء التغذية لدى الأطفال هو الفقر، وأردف معلومٌ أن الفقر يحول وعدم قدرة الفرد للحصول على حاجته من الموارد الكافية التي تُلبي نفقات احتياجاته لأغراض المعيشة، بمعنى آخر الفقر هو المهدد الوحيد لحياة الإنسان ويتسبّب له في عدد من الأمراض المستعصية التي تؤثر سلباً على حياة العديد من الأسر والمجتمعات والأفراد وتنجم عنه الإصابة بمرض التقزم (حالة التقزم أو تأخر النمو)، مبيناً أن التقزُّم هو عبارة عن عدم توافق ما بين الطول والعمر للمُصاب، بمعنى آخر يُعرف التقزُّم بضعف أو اختلال نمو وتطوُّر الأطفال وتراجع نموه بشكل كبير مقارنةً بالمعدلات الطبيعية لنمو الأطفال، لتحديد ما إذا كان الطفل يعاني من التقزُّم (أو تأخر النمو) تتم مُقارنة نموه بمعدلات النمو الطبيعية الخاصة بالفئة العمرية التي يندرج تحتها الطفل. يحدث التقزُّم أو بما يُعرف بتأخر النمو، لأسباب عديدة تحدّد بواسطة ملاحظة الطبيب لهذه الحالة أو من خلال شكوى أهل الطفل، وأردف قائلاً: من الممكن علاج بعض حالات التقزُّم ومساعدة الطفل على بلوغ طول أقرانه الطبيعيين أو مُستوى قريباً منهم إذا اكتشفت الحالة مبكراً، مشدداً على ضرورة لأهل المصاب مُراجعة الطبيب عند ملاحظة تقزم الطفل، حيث إنه من الممكن أن يكون إشارة إلى مشكلة صحية أخرى، واكد دكتور يعقوب أن التقزُّم قد يتسبب في اختلال معدلات الذكاء، وقد يتسبب في الإصابة بالإعاقة في مراحل متقدمة وقد يؤدي للموت.
وكشفت مصادر مختصة أن نتائج المسوحات التي تمّت مُؤخّراً أوضحت أن نسبة التقزُّم في السودان بلغت 36%، وأشارت هذه المسوحات الى أن الوضع يحتاج لتدخلات عاجلة لتوفير المغذيات الدقيقة وتأمين نقص الغذاء، وأكدت التقارير أنّ الولايات الشرقية أكثر ولايات السودان تأثراً بسوء التغذية الحاد (التقزُّم) وتحديداً بولاية كسلا والمحليات الشمالية منها.
وأكد دكتور علي آدم مدير عام وزارة الصحة والرعاية الاجتماعية بولاية كسلا أن سوء التغذية الحاد او (التقزُّم) من التحديات التي تواجه الولاية، مبيناً أن ولاية كسلا بها مجموعة من المشاكل والتحديات الصحية والأمراض المستوطنة، من ضمنها مشكلة التقزُّم التي ظلت تسجل تزايدا مستمراً، وقال إنها بلغت أعلى مستوياتها في المسوحات التي تمّت في الفترة الأخيرة، إذ بلغت نسبته 46%، مؤكداً أن هذه النسبة تعد من النسب المرتفعة جداً، مبيناً أن مشكلة التقزُّم ناتجة عن مجموعة من العوامل، منها عوامل صحية وعوامل اقتصادية (الفقر) واجتماعية وسوء التغذية، كما أشار دكتور علي الى درجة الوعي والتعليم خاصة تعليم البنات، فضلاً عن العادات والتقاليد فيما يخص التغذية، مما يؤثر في الإنجاب لدى الأمهات، وأكد أن هذه العوامل مرتبطة مع بعضها البعض بصورة مُباشرة أو غير مُباشرة بالذات المرض والفقر. واوضح أن التقزُّم وصمة في جبين المجتمع، وأنه لا يقتصر على دور السلطات فحسب، فعلى المجتمع دور كبير للمساهمة في الحد من انتشار المرض، مضيفاً أنه أمرٌ معيبٌ لكل شخص يتقدم مجتمع شرق السودان، وقال ان مشكلة التقزُّم كبيرة يجب الوقوف عليها ومتابعتها بصورة جدية، مناشداً كافة شرائح المجتمع للتضافر للقضاء عليها، مشيراً الى جملة من التدخلات التي اتخذتها حكومة الولاية ممثلةً في وزارة الصحة بالتعاون والتنسيق مع عدد من المنظمات الطوعية ووكالات الأمم المتحدة للحد من الانتشار.
فيما أشار أمين مجلس رعاية الطفولة بولاية كسلا عمر عثمان آدم إلى أن نسبة انتشار مرض التقزُّم في الولاية ارتفع نتيجة لجملة من الأسباب، أبرزها أسباب اقتصادية نتيجة لارتفاع معدلات الفقر بالولاية، وهنالك أسباب ثقافية ناتجة عن ثقافة الغذاء ومدى ثقافة الأم في المرحلة الأولى من الحمل وعدم المتابعة الدورية للأطباء، مما ينتج عنه خللٌ كاملٌ لتغذية الأم، فضلاً عن أسباب ناتجة عن الأعراف الاجتماعية والعادات والتقاليد لدى مجتمع كسلا، منها نظرة المجتمع والأهل والقبيلة للمرأة، مما يؤدي الى نمو الجنين بصورة غير طبيعية لعدم المتابعة الدورية للأطباء، مبيناً أن هنالك نتائج دراسات أُجريت مؤخراً أشارت إلى أن نسبة الفقر بولاية كسلا بلغت 46%، مبيناً تدخل عدد من المنظمات الطوعية لمعالجة الفقر في الولاية، الامر الذي انعكس في متغير طفيف في نسب التقزُّم، إذ بلغ (42.8%).
وأكد أمين مجلس رعاية الطفولة بكسلا أنه تمّت خلال الفترة الماضية سلسلة من التدابير والحملات الميدانية، وتمّ إجراء مسح متعدد الأغراض في أواخر عام 2019م، أوضحت نتائجه أنّ نسبة التقزُّم بلغت (45%)، مؤكداً أن دور مجلس الطفولة بولاية كسلا يقوم على المناصرة والتصدي للمشكلات التي تُواجه الأطفال بالولاية وتوسيع دائرة التدخُّلات وتكثيف التوعية المُجتمعية ومُناشدة المنظمات للاهتمام بالمشاكل التي تُواجه كافة قضايا الطفولة.
فيما يتعلّق بمشكلات الفقر، التقت “الصيحة” بمدير مركز مفوضية الضمان الاجتماعي وخفض الفقر بولاية كسلا الأستاذة عوضية محمد أبكر محمد مدير المركز، التي أكّدت أنّ المشاكل الاجتماعية والصحية والتعليمية والثقافية سببها الأساسي الفقر، وذلك له مردود مُباشر في ظهور مُشكلة التقزُّم وسوء التغذية بشكل كبير في الولاية، وقالت إن مؤشرات الانتشار لها عوامل عدة في الولاية، منها عوامل طبيعية مثل الجفاف والفيضانات والسيول وهذه العوامل تؤثر تأثيراً مُباشراً في دخل الأسرة، وأشارت مدير المركز إلى مجموعة من الخُطط لوضع معالجة لخفض مشكلة الفقر، منها التدريب ودعم الأسر الفقيرة (سُبُل كسب العيش) والدعم النقدي المباشر من مجموعة منظمات (اليونسيف) والمركز، حيث بلغت نسبة المستفيدين وأغلبهم من الحوامل في قطاعات الولاية المختلفة 31.959%. ومن ضمن الخُطط عمل مسح دوري بالولاية للحصول على نسب حقيقيّة بالولاية.
ومن المناطق المُتأثِّرة في الولاية بمرض التقزُّم القطاع الشمالي بالولاية. وأكدت الأستاذة عوضية أن هنالك بشريات في العام 2023 لخفض نسبة الفقر بالولاية، كما وجّهت عوضية نصائح عامة عن تغيير السلوك في تردُّد الأم للمقابلات الدورية للأطباء والتوعية الغذائية والتثقيف الصحي.
ويبدو من خلال البحث والتقصي أن مشكلة التقزُّم ذات أبعاد وجذور تتطلّب وضع برنامج مشترك وتشبيكاً بين العديد من الجهات للتصدي لتلك المشكلة، خاصة بشرق السودان، ونأمل أن يضطلع المجتمع بدوره في هذا الجانب، وعلى النخب والساسة من أبناء شرق السودان العمل الجاد لمُواجهة تلك القضايا بدلاً من التشاكس والصراع، لحماية أطفال شرق والأمهات والسودان لينعم الجميل بخيرات هذا البلد المعطاء.