هناك فرق
منى أبو زيد
سُلطة مُطلقة
“يبدأ الطغيان عندما تنتهي سلطة القانون”.. جون لوك..!
(1)
في معرض تعقيبي على ورقة خلال مؤتمر إعلامي انعقد قبل سنوات بالخرطوم، تحدّثت عن معاناة “الكاتب اللا منتمي” الذي تعتبره الحكومة مُعارضاً حينما ينتقدها، والذي تعتبره المعارضة “كوزاً” عندما ينتقدها. وكيف أنه يدفع أثمان مواقفه المبدئية ورؤاه المتماسكة لذاته ولمختلف القضايا والمواقف السياسية من حوله. وأذكر أن الكُتّاب اللا منتمين – الذين ينتقدون مواقف ووقفات الحكومة – كانوا يعانون في تلك الفترة من الإصرار على إلصاقهم باليسار السياسي في مكارثيةٍ مُجحفة. اليوم – ومع تصاعُد وتيرة الأحداث وارتفاع منسوب الاحتقان السياسي – أخذت المكارثية بُعداً جديداً على مواقع التواصل الاجتماعي التي بات يُسيطر على بعض خطوط حراكها أشخاصٌ يتحدّثون باسم الثورة والثوار، ويُمارسون الإرهاب الفكري على كل من تسوّل له نفسه أن يكتب رأياً عاقلاً وجريئاً في شأن بعض التجاوزات والأكاذيب. رحم الله شهداء الوطن، ومن كانت هجرته إلى الله ورسوله فهجرته إلى الله ورسوله، ومن كانت ثورته لدنيا يصيبها فثورته إلى ما هو ثائر إليه..!
(2)
نشرت مجلة “روز اليوسف” – قبل أعوام – تقريراً جيداً بعنوان “سيدنا كما صوَّرته الأعمال الأدبية”، و”سَيِّدنا” هذا هو شيخ الكُتَّاب كما يطلقون عليه في مصر، وهو ذاته “شيخ الخلوة” كما نطلق عليه في بلادنا. وقد استعرض التقرير، عدداً لا بأس به من الصور السالبة التي رسمها بعض الأدباء المصريين لهذه الشخصية بطرائق ساخرة. من رواية “خافية القمر” لمحمد ناجي، إلى “سقوط النوار” لمحمد إبراهيم طه، إلى “الأعراف” لسعيد الكفراوي، مروراً بعميد الأدب العربي طه حسين في “الأيام” ويوسف السباعي في “السقا مات”. لكن ألوان السُّوء في تلك الصور الأدبية السالبة عن شيوخ الخلاوي لم تتجاوز الكذب والإهمال والمساومة لولاة الأمر بطلب الأطعمة والهدايا، وتعنيف الصغار وسبِّهم والسخرية منهم. ثم في أسوأ الأحوال وأعظم الأهوال يأتي الضرب بالعصا أو رفع الأرجل على الفَلَقة. أما في السودان، فقد ظلت خلاوي القرآن ملاذاتٍ آمنة لطلاب العلم من صغار السن، ولم تكن تشوب سمعتها شوائب ورذائل وموبقات اليوم، بل كان الضرب – غير المبرح – بغرض التربية والتعليم، مطلباً لأولياء الأمور، إلى أن حلَّت علينا لعنة “جرائم الخلاوي” التي بات المرء يتعثَّر بحكاياتها المُفْزِعَة من حينٍ إلى آخر. كيف يتجاوز بعض شيوخ الخلاوي حدود تكليفهم بتحفيظ القرآن وتلقين العلم إلى تعذيب الأطفال بدعوى التأديب والتهذيب، وكيف يصمت المجتمع عن هذه الظاهرة رغم شيوعها ولا يتحرّك إلا بعد أن يتحوّل القمع والتعنيف والضرب الممنهج إلى جرائم مُكتملة الأركان، ثم أين الحكومة..؟!
(3)
الكثير مما نتعثر به على مواقع التواصل الاجتماعي كل يوم يؤكد أننا بحاجة إلى علماء اجتماع يفسرون لنا تلك الشطحات الافتراضية أولاً، ثم ذلك التناقض السلوكي في تلك المنصات الإسفيرية. كيف ولماذا ولمصلحة مَن ينشط ذلك الكائن الافتراضي من “النقل” إلى التلفيق، ومن “التشيير” إلى التشهير؟. وهل ذلك الكائن الإسفيري هو ذاته ذلك الفرد المطحون بفعل عجز الميزانية والمحاط بضباب الفراغ الدستوري وكوارث الأوبئة الصحية ومهددات الأمن القومي؟. رواد تلك المنصات الافتراضية يعيشون اليوم أزمة نفسية اجتماعية اسمها “الحاجة إلى بطل”. لكن البطولة نفسها مفهوم يتفرَّق دمه بين قبائل الأوهام والاصطناع والزيف والتفكير الرغائبي، من ادعاء البطولات إلى صناعة الأبطال. منصات التواصل الاجتماعي في بلادنا كادت أن تتحوّل إلى “مستشفيات مجانين”، هل يدرك المتفرج العاقل هذه الحقيقة أم فات الأوان..؟
munaabuzaid2@gmail.com