ينبغي على شريكيْ الحكم الجديد التفكير ألف مرة قبل بدء تنفيذ اتفاقهما، في التفاهُم مع الجبهة الثورية وإلحاقها بالاتفاق قبل فوات الأوان، فالسلام قضية جوهرية، وإنهاء الحرب لازِمة من لوازم الاستقرار، ولا يمكن الانتقال إلى حكم جديد وتحقيق تطلُّعات الشعب السوداني دون التوصّل إلى سلام مُستدام وطي ملف الاقتتال، ويجب ألا نتجادَل في أن هناك سوء تفاهُم وامتعاضاً ورفضاً من الجبهة الثورية لِما تمّ الاتفاقُ عليه، وتصريحات قيادات الحركات المسلحة عقِب توقيع الإعلان الدستوري بالأحرف الأولى واضحة وجليّة، وتكشِف حجم الخلاف خاصة بين الجبهة الثورية وقوى إعلان الحرية والتغيير، ولم تُزِل أو تُزِح بعض التطمينات والأحاديث المتفرّقة من الموقّعين سحابة الغبن التي خيّمت على علاقة الجبهة الثورية بطرفي الاتفاقية.
ولو مضى الاتفاقُ بدون هؤلاء، فإن النتيجة ستكون صِفريّة بالتأكيد، لأن أهم مطلوبات المرحلة المُقبلة هو توافقُ السودانيين جميعاً على نبذ الحرب وإحلال السلام ولجم البندقية وإسكاتها والتوجُّه نحو بناء وطنٍ مُبرّأ من كل دواعي الحرب ومُسبّبات النزاع المُسلَّح، ولن تستطيع الحكومة الجديدة التي ستنطلِق بعد أسابيع في أداء مهمتها أن تفعل شيئاً إذا لم تكن أولوياتُها هي مسألة السلام ونشر بُرْدتِه ورايته فوق ربوع البلاد، فما يُقلِق حقّاً هو تعليقات مني أركو مناوي، ود. جبريل إبراهيم وردود الأفعال من الحركة الشعبية شمال بجناحيها، فهؤلاء يُمثّلون حَجَر الزاوية في عملية الحرب والسلام، فرغم أن هناك التزامات بوقف إطلاق النار، وتعهّدات بإيقاف كل أشكال الحرب تمهيداً للانضمام لمسيرة العمل السلمي، إلا أن الخوف بات يتَّسِع لأن طبيعة هذه الحركات هو رد الفعل غير الملائم والاندفاع في التعبير عن مواقفها التصعيدية خاصة عندما تشعر بالتجاهُل والتهميش والإقصاء.
الحِكمةُ السياسية تقتضي قبل التوقيع النهائي على الاتفاق السياسي والوثيقة الدستورية، أن يُسرِع المجلس العسكري وقوى إعلان الحرية والتغيير إلى الحوار من جديد، وضم الجبهة الثورية إلى الاتفاق وتمثيلها في مؤسسات الحكم القادمة، والإسراع في توقيع اتفاقٍ معها، والتعجيل بالترتيبات الأمنية والعسكرية، وسد الذرائع أمام الرجوع إلى مربع الحرب من جديد.
وللحقيقة، لا ندري حتى اللحظة، ما الذي حدث بعد عودة وفد الحرية والتغيير من العاصمة الإثيوبية أديس أبابا والإعلان عن اتفاق وتفاهُم كامل مع الجبهة الثورية، ويومها سرى اطمئنان لدى الجميع أن التطابُق في وُجهات النظر بين الجانبيْن سيجعل الطريق سالكاً ومُمهّداً لبلوغ مرفأ السلام وتوديع الحروب والمواجهات والصدام، فما الذي تغيَّر..؟ فقُبيل الاتفاق وتوقيع الإعلان الدستوري، قرأنا استيضاح الجبهة الثورية للحرية والتغيير، وكانت بين السطور ملامحُ خلافٍ وبوادر افتراقٍ بين الجانبين، فلماذا لم تسع الحرية والتغيير إلى تقليل مساحة الخلاف مع الجبهة الثورية ومنع الانزلاق إلى وحل الشقاق السياسي..؟
على صعيد المجلس العسكري، هناك حرصٌ من البداية على التواصُل مع الحركات المسلحة والتفاهُم معها وضمان حقها في المجلس السيادي ومجلس الوزراء والمجلس التشريعي، وجعلها شريكاً رئيسياً في الفترة الانتقالية، وتتويج الحوار معها بتفاهُم كاملٍ وتحالُفٍ وثيق، وجرت لقاءات في انجمينا وجوبا وأسمرا وأديس أبابا بعضها قادها نائب رئيس المجلس العسكري بنفسه، للتأكيد للحركات وقيادات الجبهة الثورية أن وجودهم مُهِمٌّ وضروري ولابد منه في صناعة الاستقرار وتحقيق الأمن، ولا يُمكن أن تكون هناك حكومة بدونهم، فهل يا ترى سيُواصِل المجلس التواصُل مع الحركات لضمّها للاتفاق وانتظارها لتكون جزءاً منه، أم يمضي المجلس في تفاهُمه الثنائي مع الحرية والتغيير وحدها ويترك الأمور للظروف وتصاريف الأقدار..؟
ما يخشاه كل سودانيٍّ حريصٍ على الاستقرار، ألا يحدُث تحالُف كطائر الشؤم بين الحزب الشيوعي السوداني الرافض للاتفاق، والحركات الغاضِبة والرافِضة له، وتستمر الحرب وتزداد اشتعالاً، فالغُبن السياسي يولِّد كل شيء، فنارُه دائماً تَلِد حروباً ذات سعير، فيا للجزعِ على الحكومة القادمة إن وَجَدَتْ نفسَها في مُواجهة الحرب والحرب السياسية من كل الجبهات المُتعارِضة والمُعارِضة لها..!!