مدنية أخرى..!

“الشعور العميق تجاه الأشخاص والأشياء، الإخلاص الأعمى لقيم الحب والجمال، الطيبة الساطعة، عشوائية الطرح، فوضوية التلقي، وردود الأفعال ذات الزوايا الحادة، تلك بعض نقاط ضعف الشخصية السودانية وهي أيضاً من أسباب قوتها” .. الكاتبة ..!

 لو أجرينا استطلاعاً صحفياً طريفاً عن محتوى أمتعة المسافرين، المغادرين من مطار الخرطوم إلى مختلف العواصم العالمية، لن تسلم حاوية الأمتعة في أي طائرة – والتعميم على مسئوليتي! – من إحدى أيقوناتنا الشعبية الناطقة “حفنة ويكة، برطمان ملوحة، كرتونة طلح .. إلخ ..!” وهو – كما ترى – سلوك جمعي، لا يحفل كثيراً برأي “الآخر” حول تصديره عبر القارات ..!

ذات المبدأ ينسحب على النهج العشوائي لحاملي تلك الأمتعة داخل الطائرات، وبين صفوف الجوازات، وهي لعنة سلوكية تجعلنا محط تذمر الآخر وضجره وبالتالي تقليله من شأننا القومي واستخفافه بقيمتنا الإنسانية، ومعاملتنا بجفاء من منصات الأمم المتحدة، إلى أروقة المكاتب والسفارات، إلى أزقة الشوارع في بلاد الله الواسعة. لكننا لم نسأل أنفسنا يوماً “لماذا”، وأعني بالسؤال هنا التفاتة قومية جادة نحو ظاهرة التقليل الدائم من شأننا شعباً وحاكمين ..!

هذه دعوة صريحة إلى طرح سؤال قومي في هذا الصدد، ألسنا اليوم ذلك السودان الذي نجح أخيراً في امتلاك حريته بعد انتصار ثورته، وتحديد هويته الديمقراطية المستقبلية الجازمة ؟!. طيب، لماذا لا نجتهد إذاً في إطلاق شعار “مدنية” على صعيد آخر، صعيد اجتماعي يلتفت عبره هذا الشعب إلى إعادة صياغة نفسه وتمثيله الخاص والعام على خارطة الدول ..؟!

لعلك تلاحظ معي علو بعض الأصوات التي تدعو إلى سودنة العمالة وتحجيم وجود الوافد الأجنبي – ولعلك قد قرأت شيئاً بهذا المعنى في هذه المساحة – ولكنني رغم ذلك أرجو أن تُبارك مثلي وجود بعض الجاليات الوافدة ذات السلوك الاجتماعي الراقي والحميد، وأن تشجع مثلي تغلغل مثل هذا النوع من الوافدين في نسيجنا الاجتماعي علنا نتغير. على الأقل سينقذنا الامتزاج مع بعض ثقافات الآخر من تداعيات ذلك الكبرياء الأجوف وتلك الحساسية العالية ضد النقد الإيجابي، ومغبة ذلك الإصرار الأخرق على “تأليه” الذات السودانية أدام الله عزها ..!

أول مجالب الانفتاح الثقافي والاجتماعي على الآخر ستكون مواطن لا يحتاج مقدمو البرامج الحية في المحطات الفضائية إلى أن يتوسلوا إليه في كل مكالمة لكي “يوطِّي” صوت التلفزيون، وحاج سوداني منظم، ومعتمر سوداني لا تعني إقامته المديدة كابوساً للسلطات في بلاد الحرمين، ومسافر سوداني لا يكلف ضباط الجوازات عناء توبيخه على تجاوز الخط الأحمر قبل أن يحين دوره ..!

أراهنك على أننا لو تسامحنا مع بعض ألوان الوجود الآخر بيننا سوف ننجح بعد مضي عشر سنوات في تدبيج دراسات اجتماعية ثرة تتناول دور الممرضة الفلبينية في تقليل نفايات ومخلفات زوار المستشفيات ، أو بصمة بعض الوجود الأجنبي الفاعل في تقليص مساحات “ونسة الباب”، أو أثر العمالة شرق الآسيوية في انخفاض الميزانية المهدرة على “بنابر ستات الشاي” ومعدلات استهلاك السجائر .. إلخ ..!

ولو شدَّت حكومات ما بعد الثورة حيلها – في تعزيز ألوان التلاقح الثقافي – فمؤكد أن بعض السودانيين سوف ينجحون خلال عقدين أو ثلاثة من الزمان في التخلص من عادة السواك على عتبات البيوت، والبصاق في الأسواق. بل لعل الله يكرمنا برقة الحاشية، فتشيع فينا “لو سمحت” و”حضرتك” و”كلك ذوق”، بدلاً عن “هوي”، و”أسمع”، و”عاين”، التي لا يتورع الواحد منا عن أن يخاطب بها أعلى مقام ..!

منى أبو زيد

[email protected]

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى