الخرطوم / مريم أبشر / محمد جادين
أشرقت شمس “الرابع” من أغسطس ليوم أمس “الأحد” والسودان يستشرف عهداً جديداً طوى صفحة سالت فيها دماء ودموع أضاء فيها “الشهداء” الطريق بنور أرواحهم واحترقوا ليهدوا للناس معالم “الدولة المدنية” التي نادوا وصرخوا وتغنوا وحلموا بها وها هي اليوم أصبحت واقعاً مُعاشاً تمشي بين الثوار بعد مخاض عسير وصبر وتضحيات عظيمة، بـ “الأحرف الأولى” وقع طرفا المُعادلة السياسية في البلاد “المجلس العسكري” وإعلان قوى الحرية والتغيير “الوثيقة الدستورية” الحاكمة للفترة الانتقالية المُمتدة لثلاث سنوات تمثل تحدياً جديداً في مسير الدولة السودانية خُصصت الأشهر الستة الأولى من عمرها لطي صفحة الحروب والنزاعات وتحقيق السلام ولإسكات صوت البنادق للأبد وعودة النازحين واللاجئين مكرمين إلى ديارهم ليساهموا في عجلة الإنتاج والبناء لدولة أنهكها الصراع، “الوثيقة الدستورية” في انتظار التوقيع النهائي في احتفال مهيب بحضور قادة من دول الجوار والمحيط الإفريقي والعربي عقب عيد الأضحي ليدخل السودان فترة جديدة تؤسس لدولة المؤسسات.
يوم طويل
خلال الأيام الثلاثة الماضية شهدت قاعة الصداقة بالخرطوم جولات ماراثونية من التفاوض بين “العسكري” و”التغيير” لوضع النقاط على حروف الاختلاف فكان التوقيع بـ “الأحرف الأولى” على الوثيقة الدستورية أمس، حيث ظلت اللجان الفنية في غرفة المباحثات منذ الثامنة من مساء أمس الأول “السبت” تعيد صياغة الوثيقة، وانضم إليها في الساعات الأولى من صباح الأمس قادة الحرية والتغيير والمجلس العسكري، فيما رابط الإعلاميون بمقر المفاوضات منذ السادسة صباحاً في انتظار التوقيع على الاتفاق الحلم، وزف البشرى للشعب السوداني الذي ملّ الانتظار، وعند منتصف نهار أمس، سلمت اللجنة الفنية الوثيقة كاملة مبرأة من أخطاء الصياغة ليُعلِن بعدها الوسيط الأفريقي البروفيسر محمد حسن ولد لبات من منصة التوقيع بداية عهد جديد من عمر الدولة السودانية.
الوسيط يهتف
تلا الوسيط الافريقي ولد لبات خُطبة عصماء عقب التوقيع وقال “إن للتاريخ لحظات لا تكتب بالكلمات وإنما تكتب بالأنفاس والضمير والإرادة والوفاء ودم الشهداء ودموع الثائرين وجهودهم وتضحياتهم وتكتب بتلاحم الشعب مع قواته المسلحة ومنظومته الدفاعية”.
ودعا الجميع مدنيين وعسكريين لأن يكونوا أوفياء لروح الثورة ودماء الشهداء، وأضاف: “وفاؤكم هو كتابة التاريخ الحقيقي للفترة الانتقالية وأن تحيطوا بالرعاية والاحترام والوقار منظومتكم الدفاعية”، ونوه إلى أن أي تفريط في القوات المُسلحة أو محاولة المساس بها يعني المساس بصلب الوجود للوطن السودان، وحث السودانيين على المحافظة على استقلاليتهم وقرارهم، ووجدت وصية ولد لبات تصفيقاً وترحيباً من الحضور بالإهتمام بـ “الكنداكات”، وقال: ” ما ضاعت أمة اعتنت بنسائها وشبابها وفقهائها”، وأكد أن الاتحاد الإفريقي سيظل داعماً للسودان، وسيكون قادته حضوراً في مراسم التوقيع الختامي في السابع عشر من أغسطس المقبل.
وفي ختام كلمته، أشار إلى أن الثورة السودانية قد خرجت بدرس بليغ لأفريقيا بـ “سلميتها وخصوصيتها وستضامنها”.
هامش وتهميش
تحدّث المبعوث الإثيوبي السفير محمود درير، والدموع تغالبه، وقال إن السودان صعد مراحل كثيرة من تاريخه العريق الضارب الجذور، ومرّ بمراحل هامة جداً منذ رفع العلم، واعتبر يوم أمس حدثاً بارزاً في تاريخ السودان لكونه يؤسس لحكم مدني ديمقراطي في سبيل بناء دولة القانون والمساواة، وأضاف “دولة لا تكون فيها هوامش ولا تهميش لأبنائها”.
ودعا حاملي السلاح للعودة لحضن الوطن ليشاركوا في بناء مرحلة حاسمة من عمر السودان.
وأكد درير حضور رئيس الوزراء الأثيوبى آبي أحمد مراسم التوقيع النهائية المُرتقبة، ونوه السفير الإثيوبي إلى أن توصل السودانيين لاتفاق برهن أن أفريقيا أظهرت للعالم أجمع أنها قادرة على حل مشاكلها بحلول أفريقية.
وقطع درير بأن المرحلة الحالية من عمر السودان ستُزيل اسمه من سجل الدول الراعية للإرهاب، لافتاً إلى أن هذه الخطوة تحتاج عملا دبلوماسياً دؤوباً، وأكد أن بلاده والاتحاد الأفريقي لن يتأخرا في سبيل رفع الديون الكبيرة عن السودان .
الدموع حاضرة
بهذه الكلمات التي وجدت صدى وترحاباً من الحضور، ابتدر القيادي بقوى الحرية والتغيير المهندس عمر الدقير كلمته، وقال “أقف اليوم برأس حاسر وبقية شيء في نفسي ونقاء وجهي، مولاي الشعب الأسمر خذني فأنا العشوق العاشق”.
سبقت دموع الدقير كلماته وغالبت العَبرة حديثه ما دعاه لأن يرتجل ويقول “إن هذه الدموع وحدها تليق باللحظة التاريخية وإن كل قطرة دمع ستكون هدية لكل شهيد ولكل أم شهيد تقطع حشاها حزناً على فقيدها، ولكل والد بلغه النعي فقال قدمته فداءً للحرية وكل قطرة دمع ستكون لكل معذب فى السجون وهدية للمشردين في معسكرات النزوح واللجوء ولأطفال يشتركون مع القطط في حاويات القمامة وللجوعى والمساكين من أهل بلادي”.
وشدد على أن السودانيين عاشوا زماناً في عهد النظام البائد قسا عليهم بثنائية الفساد والاستبداد وأثقل كواهلهم بمثاقيل العناء في ثلاثة عهود يتطلع خلالها السودانيون إلى وطن كلما اقتربوا منه ينأى.
وقطع الدقير بأن حركة المُقاومة في مدها وجزرها لم تسمح لنظام الإنقاذ بمُصادرة حلم السودانيين بالحرية والحياة الكريمة، وأشار إلى أن المسير الطويل بين لجة الدم وساحل الدمع يتجلى الآن في الوطن الحلم الذي بدأ يلوح في الجغرافيا الرسولية وترابها العذري الذي طالما أسال لعاب الغزاة.
ووصف الإعلان الدستوري الذي تم توقيعه بأنه فتح صفحة جديدة في تاريخ البلاد، ويشكل عتبة جديدة في مسار الثورة، إذ أنه يمهد الطريق للثورة لتشكيل مؤسسات السلطة الانتقالية التي ستضطلع بمهام الثورة التي دفع السودنيون أعز ما يملكون “دماء أبنائهم وبناتهم”، وأكد أن من أولويات الفترة الانتقالية التحقيق العادل الشفاف للكشف عن قتلة الشهداء ومحاسبتهم، فضلاً عن تحقيق السلام، وقطع بأنه بلا استقرار لن تكون هناك ديمقراطية ولا نهوض لاقتصاد أو إصلاح.
وتعهد بالتزام السلطة الانتقالية وفق الإعلان الدستوري ببرنامج الإصلاح الاقتصادي وتفكيك ركائز المؤتمر الوطني، وتفتيت دولة التمكين الحزبي لمصلحة دولة كل الشعب، بجانب بناء علاقات خارجية متوازنة تقوم على أساس المصالح المشتركة بين السودانيين والشعوب الأخرى، ونوه إلى أن واحدة من المهام المُنتظرة قضية البناء الدستوري والسعي لوضع دستور دائم يكون مرآة لكل السودانيين على أن تنتهي الفترة بالانتخابات العامة.
وأعلن عن تشكيل هياكل الفترة الانتقالية وفق الجدول الزمني المعلوم ودعا للدفع بأشخاص ذوي خبرة ومعرفة وتأهيل وبوصلة معرفية وأخلاقية غير معطوبة، أشخاص يضربون المثل والقدوة الحسنة في القيادة يعتبرون الوظيفة تكليفاً وتضحية وخدمة للناس وإيفاء للحقوق وليس تشريفاً ومنفعة خاصة، كما كان في العهد السابق.
انتصار الإرادة
بدأ نائب رئيس المجلس العسكري الانتقالي الفريق أول محمد حمدان دقلو “حميدتي”، حديثه بتحية السودانيين الشرفاء، وزَفّ البشرى بالاتفاق، وقال إنّه وبعد عَملٍ شَاقٍ امتدّ لأيّامٍ طويلةٍ مرّت فيها المُفاوضات بمنعطفاتٍ حادةٍ ولحظاتٍ عصيبةٍ كانت طويلة، وأضاف: “خلال فترة التفاوُض اختبرنا فيها الحادبين على مصلحة الوطن لننتهي بالاتفاق على الوثيقة الدستورية وتحويل عجلة التاريخ لصالح الوطن والمُواطن” وتابع: “دخلنا للتّفاوُض كشركاء في طرفي مُعادلة وطنية وخرجنا منها فريقاً واحداً وهَمّنا جميعاً السُّودان، وأكّد “حميدتي” انتصار الإرادة الوطنية، وقطع بأنّ نتيجة المُفاوضات لا غَالِبَ ولا مَغلوب فيها لاعتبار أنّ مصلحة الوطن مُقدمة على الجميع في هذه الاتفاقية، وأشار “حميدتي” إلى أنّ التوقيع على الوثيقة طوى صفحةً عصيبةً في تاريخ السودان، سَادَ فيها التّناحُر والاقتتال، مُؤكِّداً اتّفاق الجميع على هيكلها واختصاصها لبناءٍ جديدٍ في الفترة الانتقالية، واعتبر ما تمّ علاجاً لكل أمراض الماضي لتحقيق أعلى درجات الرضاء للمُواطنين الصابرين، وأشار إلى أنّهم قدموا عدداً من الشهداء من أجل هذه اللحظة التاريخية، وتَعَهّد بالقصاص لهم، وأكّد أنّه لن يهدأ لهم بالٌ حتى يتم القصاص العادل من كل من أجرم في حق هذا الوطن والمُواطن، وأعرب “حميدتي”، عن شُكر المجلس للوسيط الأفريقي ودولة إثيوبيا لما بذلاه من جُهدٍ حتى تَحَقّق هذا الإنجاز، وشَكَرَ أيضاً دُولاً شقيقة لم يُسَمِّها، قال إنّها ساهمت بالمَشورة، ولم يَنسَ “حميدتي” المُفاوضين والإعلاميين، مُؤكِّداً تقديره لدورهم الكبير، فَضْلاً عن جُهد القوات النظامية، لافتاً إلى أنّها ساهمت في الحِفَاظ على الأمن، وامتدّ شكره لكل السُّودانيين الذين تَمَسّكوا بوحدة البلاد وحرصهم على السلام والاستقرار.
صورة زاهية
عقب انتهاء مراسم التوقيع، ضَجّت القاعة بالهتافات المُرحبة بتحقيق شعار المدنية الذي تحدث عنه القيادي البارز بقوى الحرية والتغيير إبراهيم الأمين، وقال إنّ الثورة السودانية بسلميتها وشبابها ونسائها قدّمت صُورةً زاهيةً عن الوطن، مُؤكِّداً سعيهم لمُشاركة الشباب في هياكل الدولة المُختلفة، وأشار إلى أنّهم مُؤهّلون لأن يكونوا ضمن عُضوية المجلس التشريعي، وتحدّث الأمين عن قضية السَّلام ووصفها بالمحورية، مُوضِّحاً أنّه تَمّ تضمين قضية السلام في الوثيقة، وأشار إلى أنّ مشروع السّلام سيكون مُكتملاً ويُخاطب قضايا المُواطنين ويُركِّز اهتمامه بالنازحين واللاجئين، وقال إنّ عملية السلام ستبدأ من أول يوم يتسلّم فيها رئيس الوزراء مهامه، وأرسل الأمين رسالة لكل السودانيين، وقال: “دعونا أن يكون الانتماء القومي هو المُحَرِّك، لأنّ الثورة ليست ثورة حزبٍ مُعيّن أو زعيمٍ مُعيّنٍ، وإنّما هي ثورة كل السُّودانيين في الداخل والخارج ومن أجل الجميع.
جدول التنفيذ
نَصّت الوثيقة الدستورية على جدولٍ واضحٍ ومَعلومٍ لبدء تكوين هياكل السُّلطة الانتقالية التي سَتبدأ بالتّوقيع على الوَثيقة في احتفالٍ كبيرٍ يوم 17 أغسطس الحالي، يعقبه بيومٍ حل المجلس العسكري وتكوين السيادي، وأشار إلى أنّ أعضاءه سيؤدون القَسم يوم 19 أغسطس ليعقدوا في ذات اليوم أول اجتماع لهم، يعقب ذلك تعيين رئيس مجلس الوزراء يوم الحادي والعشرين من ذات الشهر، ومِن ثَمّ أداء القَسَم لرئيس مجلس الوزراء، وبعدها بأسبوعٍ بتاريخ 28 أغسطس يتم تعيين أعضاء مجلس الوزراء، ليتم اعتمادهم من قِبل المجلس السيادي يوم 31 من ذات الشهر بعد أن يؤدوا القَسَم.
وبحسب الوثيقة، تبدأ المرحلة الفعلية للحكومة وتعقد أول اجتماع لها في الأول من سبتمبر باجتماعٍ مُشتركٍ لمجلس الوزراء والسيادة إيذاناً ببدء أعمال الفترة الانتقالية، فيما أكّد القيادي بقِوى التّغيير ساطع الحاج أنّ الشريكين سيلتزمان بالجدول المُتّفق عليه للأداء للفترة المُقبلة.