لن نسمع “هُنا لندن” بعد الآن.. حُزنٌ وشَجَنٌ في آخر يَوْمٍ من عُمر “بي بي سي”
الصيحة- وكالات
ما أن تُشير عقارب ساعة “بيغ بان” في لندن إلى الساعة الواحدة ظهر الجمعة بتوقيت لندن، حتى ينقطع بث إذاعي استمر 85 عاماً.
وعاشت عاصمة الضباب، حدثاً استثنائياً وصفه كثيرون بالحزين بتوقف إذاعة “بي بي سي” (BBC)، التي لها مع المستمع العربي حكايات وقصص، فقد شكّلت جُزءاً من وعيهم عن منطقتهم، وبوابة تابعوا من خلال أصوات مذيعيها، أحداثاً جساماً مرت بالمنطقة العربية.
ومنذ انطلاقها قبل85 عاماً، ظل شعارها الشهير “هنا لندن” – مرفوقاً بدقات ساعة لندن – أثيراً ومألوفاً لدى المُستمع العربي، وقد يختلف الارتباط بهذه الإذاعة حسب الأجيال، إلا أن الجيل الذي عاش مرحلة الراديو ثم ظهور التلفاز قطعاً ستبقى ذاكرته مُحتفظة بالكثير من الأصوات الرخيمة التي كانت تتميّز بها إذاعة بي بي سي، وبسلامة وأناقة عربية المذيعين عندما لم يكن لدى المواطن العربي من بديل عن الإذاعة، وعندما كانت هذه الإذاعة هي بديلة عن الدعاية الحكومية لمعرفة الأخبار.
ومنذ أن أُعلن عن قرار إغلاق إذاعة “بي بي سي عربي” وتسريح 400 من موظفيها، لم تتوقّف المرثيات المعبرة عن حُزن وحسرة على خسارة هذه الإذاعة.
وعبّر كثيرٌ من العاملين الحاليين أو السابقين عن استغرابهم من هذا القرار، فهذه الإذاعة – حسب البعض – ليست إذاعة عادية، ولم تستحق أن تتم مُعاملتها بهذه الطريقة، في المُقابل اعترف البعض الآخر بأنّ هذه هي سنن الكون، والجديد يأخذ مكان القديم، ولكل شيء أجل.
من بين المذيعين الذين عملوا في إذاعة “بي بي سي عربي” لسنوات طويلة، الإعلامي محمود المسلمي، الذي قدّم برنامج “همزة وصل” وكتب ما يشبه مرافعة طويلة ينتقد فيها قرار الإغلاق.
وقال الإذاعي الشهير، إنه من الصّعب عليه بصفته شخصاً وعاملاً في الإذاعة لمدة 30 عاماً أن يتقبّل هذا القرار، وكتب على حسابه في فيسبوك “لا يمكن بأي منطق أن نلقي بأربعة وثمانين عاماً من التربُّع على عرش الإذاعات الناطقة بالعربية في متاهات الغياب، لا أتصوّر أنّ من قرر ذلك استحضر نجاحات الراديو وارتباط الأجيال به وضرورة وحيوية وجوده لهم أولاً قبل العاملين فيه. ولا أتقبّل أي حجج أو أرقام تُساق، وأراها مجرد خيالات نظرية وحسابات مُجرّدة وأرقام تدوس على القيمة المعنوية وعطاء الأجيال”.
قبل أن يعود الإعلامي نفسه بعد استيعاب صدمة القرار، ليطلب من زملائه العاملين في شبكة “بي بي سي” الاحتفاء بالإذاعة بما يُليق بها “لعل ذلك يُقلِّل من الغصة والمرارة التي يشعر بها العاملون فيها”، مؤكداً أنّ قرار الإغلاق “مريرٌ ومُؤلمٌ”.
وفي حديث “للجزيرة نت” مع الإعلامي فؤاد البهجة، الذي عمل في الإذاعة لسنوات قبل الانتقال للقطاع التلفزيوني والرقمي داخل الشبكة، أكّد أنّ حسرة العاملين مفهومة، “فهذه الإذاعة تعطي لأبنائها أكثر مِمّا تأخذ منهم، أي أنها تمنحهم تمرساً في المهنة قد لا يجدونه في أيِّ مكان آخر”.
ومع ذلك، فقد أيّد فؤاد البهجة الرأي الذي يقول بالحاجة إلى وقفة تأمُّلٍ من أجل استشراف المستقبل والنظر لأفضل الطرق للحفاظ على هذا التميُّز، قبل أن يصف قرار الإغلاق، الذي أملته بالدرجة الأولى اعتبارات هيكلية مالية، بأنه “أساء لهذه التجربة ولرُوّادها ولأجيال من المُستمعين، في وقتٍ باتت فيه الحاجة ماسّة أكثر لمُؤسّسات رصينة ترشد المُتلقي التائه في فضاءات إعلامية لا أحدٌ يعرف إلى أين ستأخذنا”.