منى أبوزيد تكتب : النقش في الحجر..!
27 يناير 2023
“زوِّد الصغار بجذور عميقة، وامنح الكبار أجنحة طليقة”.. مثل هندي..!
(1)
“الذين لا يقرأون التاريخ محكومٌ عليهم أن يُكرِّروه”، ربما لذلك ظلّ الإرث الشفاهي للعلاقات الإنسانية في السودان يحمل مقداراً هائلاً من مفردات الاستبداد، الاستعلاء، الوصائية والمبالغة في نقد الآخر، لا لشيء إلا لأنه مختلفٌ وعلى نقيض، فلا ضَيرَ إذن من التشكيك في قواه العقلية إذا لزم الأمر. ومع كل ذلك تبرز مفارقة اجتماعية مفادها أنّنا شعبٌ يحذو سواده الأعظم حذو الآخر، لذلك يبقى التقليد هو سيد السلوكيات الاجتماعية في السودان، والبطل الشعبي الوحيد الذي لم يذق طعم الهزيمة حتى الآن..!
(2)
في بلادنا، مُثقفون كُثُر يُواجهون هزائم نكراء أمام سطوة العرف في شؤون وشجون الزواج، فيتخلّون عن أفكارهم الإصلاحية، ورؤاهم العادلة للذات الإنسانية على إطلاقها، ثم يمشون طائعين مُختارين إلى جذر الجد وأصل “الحبوبة” إذا لزم الأمر. مع أن الثقافة في معناها هي حزمة من العقائد والمعارف والفنون والأخلاق والقوانين والعادات، والريادة في مبناها هي التشريع للآخرين من خلال الشجاعة في تبني المواقف والخيارات. لكن المثقف يعتنق ويَشرَح، بينما الرائد يفعل ويُشرِّع، وما أقل الرواد وما أكثر المثقفين. لذلك يبقى باب النسب والمصاهرة في السودان، المدخل الوجودي الوحيد الذي يعبر من خلاله المثقف عارياً عن فكره، مُتجرِّداً عن فكره وثقافته. وهذا هو – بكل أسف – جوهر الفرق بين الثقافة والريادة..!
(3)
أسلوب التربية في مجتمعاتنا لا يُشجِّع فكرة الاعتذار، إلى حد الاعتقاد بأن كلمة آسف تناقض ما تتطلبه الرجولة من رباطة جأش وقوة شكيمة. لذلك تهرع الشّخصيّات الاعتبارية ـ في مجتمعنا ـ قبل الفردية إلى الاستماتة في تبرير الخطأ عِوضاً عن الاعتراف بوقوعه. نحن بلد مكابر حكومةً وشعباً، شعب يتعامل مع أخطائه الناتجة عن عشوائية أو سوء تقدير بمنطق مُكابر على صعيد الخاص والعام، وحكومات متعاقبة تفلسف أخطاءها السياسية على طريقة “الخطأ في إدارة الخطأ”. لذلك تجد أن الثقافة السائدة – عندنا – هي اللّف والدّوران حول المُشكلة عِوضاً عن الاعتراف بوقوعها، فكلمة “آسف” – عند معظمنا – ثقيلة، عصيَّة على الفؤاد قبل اللسان. بعد تفكير عميق في معضلة المُكابرة القومية هذه، اقترح – وبمنتهى الجدية – تضمين منهج عن” فنون إدارة الخطأ” في المناهج الدراسية للمرحلة الابتدائية، باعتبار أن زراعة السلوك القومي الناجح تبدأ منذ تلك المرحلة. “آسف” كلمة لها وزنها وقيمتها الرسمية والشعبية، ومفعولها السّاحر الذي يغسل الغضب ويلين أشدّ المواقف صلابةً، محلية كانت أم دولية، والوجه الآخر للمبادرة بالاعتذار هو الصفح الجميل، وكلاهما لا يُباع في السوبر ماركت ولا يُشترى من الصيدليات، بل ينقش في حجر السلوك القومي منذ الصغر..!