26 يناير 1885م: تحرير الخرطوم.. معركة العزة والكرامة
أغضبت الملكة العجوز وتحوَّلت إلى عرس في إيرلندا
26 يناير 1885م: تحرير الخرطوم.. معركة العزة والكرامة
– المؤرخ ضرار صالح ضرار: الإمام المهدي لم يكن راضياً كل الرضى، عن مقتل غردون إذ كان أن يفتديه بأحمد عرابي
– مخطوطات حزب الأمة القومي: الطريق لتحرير الخرطوم كان شاقًا، بدأ من الجزيرة أبا وجبال قدير ثم كردفان وحررت كافة الأطراف وكانت النهاية تحرير الخرطوم
– المؤرخ د. محمد المصطفى موسى: تلقى القوميون الإيرلنديون أخبار انتصارات الثورة السودانية على بريطانيا باحتفاءٍ مشهود .. وطفقت صحافتهم في تخلد تلك الانتصارات
– المؤرخ الروسي سيرجي سمرنوف: المهدية وأن كانت حركة دينية لدى نشوئها إلا أنها أضحت ثورة وطنية تقدمية ضد الاستعمار البريطاني .
إعداد- فرح امبده
في مثل هذا اليوم من 138 عاماً، وتحديداً في يوم 26 يناير 1885م، كتب أجدادنا صفحة جديدة في تاريخ السودان، عندما قهر الإمام محمد أحمد المهدي، ومعه صنوف من أبناء الشعب السوداني، الإمبراطورية التي لا تغيب عنها الشمس وقتذاك، بمقتل الحاكم الاستعماري وقتها غردون وهو الحدث الذي عرف بـ “تحرير الخرطوم” وهي “قصة” تحكي عن عزيمة وبسالة السودانيين ونبل أخلاقهم في مواجهة عدو لا يراعي إلا ولا ذمة.
وتحرير الخرطوم، بدأ من كردفان ودارفور، بعد أن حرر الإمام المهدي كردفان ودارفور، علم بتحرك حملة إنجليزية لإنقاذ غردون من حلفا ما جعله يتحرَّك من معسكره في بلدة الرهد في 22 أغسطس 1884م، إلى أن عسكر في أبي سعد بالقرب من أم درمان بعد مسيرة شهرين، وتمكن من تطويق الخرطوم بشكل كامل كما بدأت المؤن والغذاءات تتلاشي.
وحسب ما ورد في كتاب تاريخ السودان الحديث للمؤرخ ضرار صالح ضرار: عندما علم الإمام المهدي بتقدم حملة الإنجليز لإنقاذ غردون، عقد اجتماعاً بين كبار قادته فقرروا الهجوم على الخرطوم وتحريرها قبل وصول الجيش البريطاني، ولذلك فإنه في 26 يناير 1885م، أمر الإمام المهدي الأمير عبدالرحمن النجومي بالهجوم العام على العاصمة، واستبسل كل من الفريقين في القتال، ولكن رجحت كفة الإمام المهدي وقضى أنصاره على كل من قاتلهم في الخرطوم، ووصل بعض رجاله إلى السراي يتقدَّمهم رجلان من أبناء قبائل البجا فهجما على غردون الذي كان يحمل مسدساً فقتلاه، وفي الضحى أصدر الإمام المهدي أمره بالكف عن القتال حقناً للدماء، وعندما بلغت أنباء مقتل غردون الإمام المهدي لم يكن راضياً كل الرضى، إذ كان يريد أن يحقن دمه، كما فعل بغيره من الأوروبيين، ويقال: إن الإمام المهدي كان يريد أن يفتدي أحمد عرابي بغردون.
عرض تاريخي
قصة تحرير الخرطوم في 26 يناير 1885م، تحكي عن عزيمة وبسالة السودانيين ونبل أخلاقهم في مواجهة عدو لا يراعي إلا ولا ذمة، لكنها لا تروى في مضابط التاريخ السوداني الرسمية بالصورة التي توضح مغزاها وأهميتها في تحديد المصير السوداني.
ووفق ما ورد في مخطوطات حزب الأمة القومي، فإن الطريق لتحرير الخرطوم كان شاقًا، فقد بدأت الثورة المهدية من الجزيرة أبا وذهبت لجبال قدير بجنوب كردفان ثم انطلقت نحو كردفان وحررت كافة الأطراف حتى كانت النهاية تحرير الخرطوم.
أهم المحطات في الطريق للتحرير كانت شيكان يوم الاثنين 5 نوفمبر 1883م، بعدها استسلم سلاطين النمساوي في شعيرية وتم تحرير دارفور في 14 يناير 1884م. بعد الهزيمة الماحقة ومقتل هكس باشا في شيكان وضع البريطانيون خطة للاستيلاء على السودان بإرسال غردون مطوع ثورة (الملك السماوي) في الصين فتم تعيينه حاكمًا عامًا على السودان في يناير 1884م.
حصار الخرطوم
بدأ حصار الخرطوم في يناير 1884م بقوات الشيخ محمد الطيب البصير، قبل وصول غردون وتجريبه كل وسائل الخداع والاستمالة والترغيب.
وكانت أولى محاولاته قبل وصوله بربر في 11 يناير 1884م إرساله هدية (جبة وقفطان وحزام وطربوش مغربي بعمامة ومركوب وشال) وخطابًا ورشوته بأن يعطيه ملك كردفان. ورد عليه المهدي داعيًا محاولاً له للإسلام ورد له هديته وأهدى له جبة ورداء وسراويل وعمامة وطاقية وحزام ومسبحة.
وصل غردون الخرطوم في 18 فبراير 1884م، وأصدر على الفور إعلاناً للقبائل المجاورة بأن السودان قد تم فصله نهائيًا عن مصر وأن كل القرارات الخاصة بإلغاء الرق قد أبطلت وأنه لن تحصل أقساط ومتأخرات ضرائب وأنه عيَّن المهدي سلطانًا على كردفان وأمر بإحراق دفاتر متأخرات الضرائب علناً مع الكرابيج والسياط وأدوات التعذيب الأخرى المعروفة عن ذلك العهد الذي أشقى السودانيين كثيرًا.
وفي مارس أرسل القائد المهدوي إبراهيم العبيد لغردون يقول له إن الإمام المهدي أمرهم بحصار الخرطوم، ويقول له (سلم تسلم يؤتك أجرك مرتين) لكنه أبى، وقضى غردون أبريل 1884م في زيادة تحصينات الخرطوم فحفر خندقًا أطول وعمَّق ما كان محفورًا لثمانية أقدام، وشيَّد سورًا من الداخل ارتفاعه خمسة أقدام، وشيَّد طوابي جديدة. وفي منطقة انحسار النيل وضع مراكب محملة بالمتفجرات، وعلى بعد من الخندق وضع عبوات ناسفة مزوَّدة بأجهزة إشعال محملة بالبارود وضعت في براميل المياه الفارغة. وشمل نظام الألغام هذا كذلك حامية أم درمان، حلة خوجلي ببحري وجزيرة توتي، وأنشأ نظام تلغراف يجمع هذه النقاط المتباعدة بالقصر.
في 15 أبريل لاحت بوارق الأمير أبو قرجة (أمير البرين والبحرين) حول الخرطوم ومعه أربع فرق من جهادية كردفان حملة الأسحلة النارية ومدفعين وبطارية صاروخ. ونزل بالجريف شرق الخرطوم، وأرسل خطاباً لغردون يحضه كذلك على التسليم، ثم تقدَّم لمنطقة بري وبنى فيها طابية وضع عليها مدفعًا، وأمر فضل أحمد (فضلو) بالنزول على النيل الأبيض في منطقة شجرة ماحي بك (الشجرة الآن) فنزل هو ورجاله هناك وشيَّد طابية ووضع عليها مدفعًا. ولم تسكت الدانات داخل الخرطوم، واشتد الحصار عليها فارتفعت الأسعار بنسبة 3000،%وزاد عدد القتلى والجرحى. وفي 14 مارس 1884م تم تحرير بحر الغزال، وتحرير بربر في 19 مايو 1884م.
في الأسبوع الأول من مايو أرسل غردون ثالث بواخر محملة بالجنود لضرب طابية أحمد فضلو بالشجرة، وتمكنوا من هدم الطابية والاستيلاء على المدفع وكمية من الذخيرة ودمَّروا منازل كثيرة للأهالي ولكن الثوار تجمعوا سريعًا بعد ذهاب البواخر وشدَّدوا الحصار مرة أخرى.
في 10 يونيو 1884م دعا الشيخ أحمد العوام، وهو مصري من خطباء الثورة العرابية وكان منفيًا للسودان في الخرطوم، لحل سلمي فقبض عليه غردون بتهمة التحريض وكبَّله بالحديد وسجنه وبعد ذلك أطلق سراحه وعيَّنه معاوناً في الحكمدارية، لكنه لم يتنازل عن ثوريته فبطش به ولفق له تهمًا أعدمه على إثرها، وقد خلف كتابه (نصيحة العوام للخاص والعام من أخواني أهل الإيمان والإسلام).
في 15 يوليو أرسل غردون جردة لمهاجمة الأمير أبي قرجة. وأخرى لمنع تقدم تعزيزاته من جهة الكالكلة. فنجحوا في تشتيت قواته والاستيلاء على بعض مؤونته، كذلك شن هجومًا آخر عليه في 12 أغسطس 1884م، وأرسل حملة في 15/8/1884م طردت قوات العبيد ود بدر من الحلفايا، وأطلق جردة في 29 أغسطس، على قوات ود بدر المتمركزة في العيلفون استولت على كميات من الأغذية، مما حسَّن من الحالة في الخرطوم المحاصرة. وحاولت قوات الجردة مطاردة الثوار، فحاصروها في غابة أم ضبان وقضوا عليها ومن فر منهم ووصل الخرطوم كان في حالة هلع شديد. بعد هذه المعركة بدأ غردون يسقط في الهاوية.
أرسل المهدي الأمير عبد الله جبارة والأمير بابكر عامر للانضمام للشيخ العبيد ود بدر فالتقياه، وقد كان شيخاً مسناً ولكنه قوي الإرادة استطاع من غرفته أن يوجه أبنائه لقتال الغزاة. وكان الأمير العباس العبيد ود بدر بالمرصاد لبواخر غردون من الشاطئ الشرقي للنيل الأزرق.
وصول النجومي
عزز من النكبة الغردونية وصول أمير الأمراء عبد الرحمن النجومي لمشارف الخرطوم في 1 سبتمبر 1884م في قوة مسلحة بالسلاح الأبيض والبنادق، انضمت إليهم قوة عبد الله النور معهم مدافع كروب ومدافع جبلية وصاروخ. وكان معه من الأمراء عبد القادر مدرع شيخ الحسنات وعبد الله سالم الحاج عبد الله وعبد الله النور. التقى النجومي بأبي قرجة في قرية ود شكر الله (على بعد 24 ميالاً جنوب الخرطوم) وتقدما لقرية الفرقان بالقرب من حصون الخرطوم.
تقدم النجومي لمنطقة القوز وشيَّد طابية هناك قبالة أقوى طابية لغردون، وشكَّل طابية في الجريف يقودها الأمراء سليمان العبيد، حامد النيل حامد وعمر الخليفة محمد سوار الذهب، كما وضع مخازن للأغذية يشرف عليها الأمير حاج خالد العمرابي. وأرسل الأمير عبد القادر مدرع لمقابلة بوابة المسلمية وأمر عبد الله النور وجيشه بالنزول في مقابلة بوابة بري على ضفة النيل الأزرق اليسرى وأرسل محمد عثمان أبو قرجة لاحتلال ضفة النيل الأبيض اليمنى أمام قرية الفرقان.
في شهر سبتمبر 1884م تلقى غردون عدة خطابات من أمراء المهدية تطالبه بالتسليم أهمها خطاب من النجومي في 13/9/1884م رد عليه غردون في 24 سبتمبر يرشو فيه النجومي وأبا قرجة عارضًا عليهما أن يعينهما سلطانين على الغرب بعد أن تعود الأمور إلى نصابها.
نجدة غردون البريطانية
فكَّرت بريطانيا في إرسال نجدة لغردون بقيادة اللورد ويلسلي، وصلت أعداد منها دنقلا في منتصف نوفمبر 1884م. في 27 ديسمبر 1884م قسم اللورد ويلسلي قوة النجدة (حملة النيل) المتجهة للخرطوم إلى قسمين: الأول يسمى طابور الصحراء يذهب عبر الصحراء لاحتلال المتمة.
بقيادة سير هيربرت استيوارت، والثاني يسمى الطابور النهري بقيادة ميجور جنرال ايرل، يذهب مع النيل لاحتلال بربر بمساعدة الطابور الأول. الحرب البايولوجية والتزوير نفذ الغزاة الحرب البايولوجية على الثوار من داخل الخرطوم ومن خارجها.
أما من الداخل فقد قام غردون بمساعدة الطبيب نيكوال، بنشر الجدري بين قوات الثوار المحاصرين للخرطوم، وأخالها من الأوربيين (هو شخصياً لديه مناعة من المرض)، وقد قبض الثوار على باخرة الأوربيين الفارين ومعهم أوراق مهمة وأختام مزوَّرة فيها توقيع المهدي.
الجزء الثاني من الحرب البايولوجية أشرفت عليه حملة الإنقاذ البريطانية، حيث كانت حملة النيل تحمل معها 96 صندوقًا من الأطعمة المعلبة الملوَّثة بالتايفويد، وضعت معها صناديق الخمور للتمويه.
المهدي يتجه نحو الخرطوم
سار المهدي من الرهد في 22/8/1884م، نحو الخرطوم على قدميه (مراعاة لحال الضعفاء والأصحاب الذين معه في السفر) وذلك بطريق شركيلة وشات والدويم، فمر بالرهد، وبقي شهرًا بشات، وقضى عيد الأضحى في الترعة الخضراء وأخيرًا وصل أبي سعد جنوب أم درمان في 24 أكتوبر 1884م، وأمر بتشديد الحصار على الخرطوم وحصار حامية أم درمان بقيادة الأمير حمدان أبو عنجة الذي أكمل بناء استحكاماته في نوفمبر 1884م وصار يقوم بهجوم يومي على الحامية.
في 31 ديسمبر 1884م تم تأمير الأمير موسى أبو حجل ابن زعيم الرباطاب على أهله، فواجه طابور النهر وأصابه بخسائر فادحة. وفي نفس اليوم اجتمع المهدي مع قواده لبحث الهجوم على الخرطوم والذي يرى أنه سهل ولكن يحجم عنه لأنه ستفقد فيه أرواح يجب حقن دمائها، ومن جهة كان يدرك أنه لا بد من مهاجمة الخرطوم فوراً إذا اقتربت أية قوات إنجليزية منها. في الخامس من يناير 1885م سلمت حامية أم درمان للأنصار.
أرسل المهدي خطاباً لغردون في 6 يناير يقول له (سلم تسلم يؤتك الله أجرك مرتين وإن أعرضت كان عليك إثمك وإثم من معك). وفي اليوم التالي أرسل له خطاباً آخر يقول له: (سمعنا مرارًا فيك الخير ولكن على قدر ما كاتبناك للهداية والسعادة ما أجبتنا بكلام يؤدي إلى خيرك كما نسمعه من الواردين والمترددين، والآن آيسنا من خيرك وسعادتك).. (وقد بلغني في جوابك الذي أرسلته إلينا أنك قلت إن الإنجليز يريدون أن يفدوك وحدك بعشرين ألف جنيه، وأنت إذا قبلت نصحنا فبها ونعمت، وإلا إن أردت أن تجتمع على الإنجليز فبدون خمسة فضة نرسلك إليهم).
أبو طليح والشبكات
طابور الصحراء بقيادة هيربرت ستيوارت، وصل أبو طليح في الجمعة 16 يناير. الثوار الأنصار احتلوا آبار أبي طليح وكانوا بانتظار طابور الصحراء لتأخيره بحسب أوامر الإمام المهدي الذي كان يريد إعطاء زمن لغردون حتى يسلم، وانضمت إليهم جزء من الراية الخضراء بقيادة الأمير موسى محمد حلو. وهجموا على الطابور في صباح السبت 17 يناير، فأصابوه ببلبلة عظيمة وحققوا هدفهم برغم الهزيمة، قال مؤرخ بريطاني: (من لحظة اصطدام الأمير موسى محمد الحلو بالمربعات الإنجليزية في أبي طليح، إلى ساعة هروب طابور الصحراء أمام الأمير عبد الرحمن النجومي، فقد هذا الطابور الشيء الوحيد الذي تميَّزت به القوات البريطانية.. وهو الانضباط).. وقام الغزاة بالجريمة التي كررها البريطانيون كثيراً وهي قتل الجرحى من الأنصار في أبي طليح.
بعدها واجه طابور الصحراء معركة الشبكات في يوم الاثنين 19 يناير 1885م، وفي المتمة في 21 يناير، هجم الأمير النور عنقرة على الطابور ولم تصب قواته بخسائر في حين فقد العدو 98 قتيلاً وجريحاً. بعد ذلك توجه طابور الصحراء في باخرتين نحو الخرطوم ومعهم مركب يحمل ذرة وعلب اللحوم الملوَّثة بالتايفويد، ومنعوا المراسلين الحربيين من الذهاب خوفاً من أن يعرفوا بأمر الحرب البايلوجية.
حينما وصل خبر الباخرتين المتجهتين للخرطوم للإمام المهدي كان ذلك بمثابة إصدار قرار من بريطانيا بالهجوم على الخرطوم. لأن الأنصار ما كانوا يمكنهم الانتظار حتى يحاربوا جيشين.
تحرير الخرطوم
في يوم الأحد الثامن من ربيع الثاني 1302 هـ الموافق 25 يناير 1885م أصدر الإمام المهدي الإنذار الأخير لغردون وأهالي المدينة وفيه: (إن النصائح والدلائل ترادفت عليك ولم تزدك إلا ضلالاً تتابعت إليك ولم تلق لها بالاً وكثرة المواعظ باللين لم تفدك إلا نفورًا واستكبارًا) وكان بمثابة إنذار أخير بالتسليم أو لقاء ما حدث بالأبيض. وقضى الإمام المهدي بقية يوم الأحد في إصدار أوامر تنفيذ الهجوم على الخرطوم. فاستدعى النجومي وبقية الأمراء لأبي سعد، وتم إصدار الأمر للأمير حمدان أبو عنجة بقصف الخرطوم والسيطرة التامة على مدخلها النيلي بالمدفعية.
وبعد صلاة المغرب عبر الإمام المهدي النيل نحو شجرة محو بك، ومعه الخلفاء الثلاثة حيث استقبلهم أمير الأمراء عبد الرحمن النجومي، وقادته، وذلك لوعظ الأنصار في أمر اقتحام الخرطوم فأبكى الجميع، وقال لهم: إن الهجوم يجب أن يكون جهاداً خالصاً لوجه الله حتى لا تشوب الاستشهاد شائبة. وذكر لهم أربعة يجب ألا يقتلوا وهم: غردون، والفكي الأمين الضرير، والشيخ حسين المجيدي، والشيخ محمد السقا.
بدأ الأمير حمدان أبو عنجة جنوب أم درمان بالقصف منذ عصر الأحد وكذلك مدفعية النجومي بالشجرة قاموا بقصف الثغرة والمراكب التي كان غردون وضعها على ضفة النيل الأبيض فيها وبوابة بري وقصر الحكمدارية وحامية المقرن. وفي الثالثة من صباح الاثنين 26 يناير، توقف القصف ليبدأ هجوم المشاة على الخرطوم عبر ثلاثة محاور: محور بقيادة الأمير أبو قرجة تتقدمهم ثيران لتفجير الألغام في بوابة بري. والثاني تضليلي يقوده الأمير عبد الرحمن النجومي وقواته من الفرسان عبر بوابة المسلمية، والثالث يقوده الأمير محمد ودنوباوي يتحرَّكون من معسكر الشجرة بدون أي صوت مقدمته تحمل البنادق والبقية سيوف ورماح. وبتكتيكاتهم الذكية وتضليلهم للعدو استطاعوا العبور وتحرير الخرطوم.
دور النساء في التحرير
كانت النساء يحملن رسائل المهدي لغردون، وجاء في تحشية إحدى الرسائل: »فتخبرك المرأة الواصلة«، بما يعني أنهن كن مندوبات الحاملات للرسائل فقط. بالرغم من أن شهداء الثورة في تحرير الخرطوم كانوا عددًا لا يتجاوز بضع عشرات، فقد كان بينهم نساء أشهرهن المحاربة ست البنات بت سليمان المشهورة بست البنات أم سيف وقد شاركت في الحصار تحت راية الأمير أبي قرجة واستشهدت هي وأربعة من إمائها. أما الشهداء من جانب غردون فحولهم أرقام تبلغ الآلاف. وللأسف قتل اثنين ممن أوصى المهدي بألا يقتلوا: غردون باشا والشيخ حسين المجيدي.
مغزى معركة تحرير الخرطوم
إنها تشير لقوة الإرادة والعزيمة والإيمان والجهاد الخالص في سبيل الله، ونجاعة التخطيط وإحكامه. ولأخلاقيات الحرب التي مارسها جيش المهدية في مواجهة عدوه، فهو لم يقم بدفن الآبار في أبي طليح كما فعل مع آبار شيكان، لأن الخاسر هنا عدد كبير من السكان، فأحجموا عن الدفن برغم حاجتهم له حربيًا مراعاة للمدنيين، وفي المقابل بدت فيها الأخلاقيات العدو الذي كان يقتل الجرحى ويستخدم الحرب البايولوجية ويزوِّر الأختام وينشر الأكاذيب، وهذا يؤكد إن الأهداف النبيلة يجب أن تتخذ سبلاً نبيلة.
وتعني معركة تحرير الخرطوم كما يقول الامام الراحل السيد الصادق المهدي : أنه لو تضافر كافة أهل السودان خلف هدف، فإنهم لا محالة بالغوه ولو بعد حين، ولو تعرَّضوا لهزائم وقتية، حيث شارك السودانيون من كل جهاتهم وراياتهم، وحارب مع المهدي شيوخ الطرق الصوفية من زملائه وفرسان القبائل شمالاً وجنوباً وشرقاً وغرباً ووسطاً، وقد وصف معركة التحرير المرحوم السيد محمد أحمد محجوب في رثائه الإمام عبد الرحمن المهدي بقوله:
شهدت فيها، وراء الغيب معركة…
حمراء تلمع في حافاتها القضب.. ُ
وقد أحاطت بهذا القصر كل فتى..
جلد تطاير من أجفانه الغضب..
وخر غردون من أعلى مدرجه مجندلاً بدماء الخوف يختضب…
وأصبح القطر حراً لا يدنسه..
باغ يعيث، ولا يضنيه مغتصب..
أصداء فتح الخرطوم
حلت أخبار الهزيمة المدوية التي تلقتها جيوش الإمبراطورية التي لا تغيب عنها الشمس على يد أنصار المهدي في الخرطوم ومقتل غردون.. كحلول الصاعقة تماماً وينقل المؤرخ البريطاني روبن نيللاندز ..كيف وثق اللورد بونسونبي سكرتير الملكة فكتوريا الخاص لهذه اللحظات حينما كتب ليصف حال الملكة فكتوريا عند تلقيها تلك الأنباء ” .
لقد كانت في حالة سيئة تماماً بعد سقوط الخرطوم وبدت كالمريض الذي كان طريح فراشه.. لقد كانت تتأهب للخروج للتو عندما أتانا تلغرافاً يحمل الأنباء ..وعندها توجهت (أي الملكة) إلى مسكني الخاص كان بادياً على محياها الشحوب فوجدت زوجتي التي أفزعها منظر الملكة وهي بتلك الحالة حين خاطبتها وهي ترتعش : فات الأوان .. TOO LATE ” .. ثم يستطرد نيللاندز .. ” لم تكن الملكة وحدها .. عندما وصلت أنباء مقتل غردون للندن ..عمت حالة الحداد جميع أنحاء بريطانيا ونُكست الأعلام وأعلن ذلك اليوم كيوم حداد قومي وسرعان ما تحوَّلت حالة الحزن العام إلى غضب جارف موجه لرئيس وزراء بريطانيا جلادستون ” .
يقول المؤرخ السوداني د. محمد المصطفى موسى، عندما وصل الخبر إلى لندن، على المستوى الشعبي راجت تلك الأغنية الشعبية الحزينة عن مقتل غردون وهزيمة القوات البريطانية على يد قوات الثورة المهدية بعنوان TOO LATE TO SAVE HIM .. فصارت لحناً شعبياً معروفاً يعزف في حانات لندن القرن التاسع عشر بأمسيات الأنس أواخر الأسبوع.
وتقول الأغنية:
هناك في السودان غاب عنا.. غاب عنا
هناك .. طأطأت إنجلترا رأسها.. وانكسرت
من هنالك .. من هنالك..
تفشى نبأ ارتعشت له قلوب كل البريطانيين ..
قُتِلَ بطلنا العظيم.. قُتِلَ بطلنا العظيم..
الضفة الأخرى
ويضيف موسى: أما في الجانب الآخر من الجزيرة البريطانية .. فقد تلقى القوميون الإيرلنديون أخبار انتصارات الثورة السودانية على بريطانيا باحتفاءٍ مشهود .. وطفقت صحافتهم في تخليد تلك الانتصارات ..فقد كانت الجزيرة الإيرلندية ما زالت ترزح تحت نير الاحتلال البريطاني حينما حررت المهدية السودان.. فكتبت صحيفة WATERFORD DAILY MAIL.. في 1884 ” إن أمانينا الحقيقية هي أن لا يضع المهدي أسلحته إلا بعد أن يحصل هو ورجاله المخلصون الأوفياء على نعمة الحرية التي لا تقدَّر بثمن .. يأيها المهدي ..يأيها المهدي .. إن مبلغ آمالنا أن تقضي كل واحدة من هجماتك بالسيف على عشرة من أعداء الحرية ” .. أما صحيفة IRISH WORLD فقد خصصت صفحاتها الرئيسة بالكامل لأخبار السودان .. وفي 7 فبراير 1885 كتبت ذات الصحيفة : “إن الثورة السودانية الباسلة تستحق التعاطف الكامل من كل أصدقاء الحرية في شتى بقاع العالم”.
أما في روسيا فقد كتب المؤرخ سيرجي سمرنوف عن تحرير الخرطوم قائلاً:” إن الثورة المهدية وأن كانت حركة دينية لدى نشوئها إلا أنها أضحت بعد انتصارها على حملة هكس واستيلائها على الأبيض وحصار وتحرير الخرطوم، ثورة وطنية تقدمية ضد الاستعمار البريطاني والحكم التركي المصري وعملائه من كبار الإداريين مثل غردون وبيكر وأمين ولبتون وسلاطين وغيرهم ” .