تحدِّيات كبيرة أمام الاتفاق…
مهما كانت المخاوِف التي لا تخفى على أحد، فإنّ الاتفاق الذي أُبرِم حول الإعلان الدستوري، يمكنه أن يجتاز وَحَل الصعوبات التي تُواجِهه، إذا أحسن شريكاه توجيهه وإدارة الفترة الانتقالية بِحكمة وحذق وحرص بالِغ يحُول دون الوقوع في الأخطاء القاتلة، فالشراكةُ لا تزال حتى اللحظة تنحصِر في التفاهُمات والإطار السياسي والدستوري المُنظِّم لهياكل الحكم ولم يتنزّل بعدُ في القضايا الأعمق، وهي البرامج والأهداف العامة والتفصيلية التي تُشكّل سياسات الدولة والجهاز التنفيذي للمرحلة المقبلة. فالاتفاق على الأطر العامة والهياكل والمُحدّدات الدستورية وكيفية تشكيل مؤسسات الحكم والسلطة، ليست بمشكلة كبيرة، لكن الأصعب والأعقد فِعلاً هو، ما الذي يُراد تنفيذه من سياسات وبرامج تُحقّق التطلّعات وتُلبّي رغبات الشعب في الحرية السياسية والرفاه الاقتصادي وحسن إدارة الشأن العام، وِفق الحقوق الدستورية الكاملة وسيادة حكم القانون.
ونرى أن طرفيْ الاتفاق لا يزالان في أول الطريق المُفضِي إلى الشراكة، فهُما حسَما مسائل ذات طبيعة هيكلية وإجرائيات تُحدّد المؤسسات وصلاحياتها واستلهما أفكاراً وتجارب سلفَتْ في تأسيس البناء الدستوري ومأسسة الدولة. لكن هل يا ترى سيتوافَقان على برنامج محدّد لقيادة الفترة الانتقالية يُواجِه التحديات الماثلة…؟ وهل يستطيعان بالفعل التعاوُن معاً وتنسيق رؤاهما وتوجُّهاتِهما تجاه الإصلاح السياسي والبرامِج الإسعافية لإنعاش الاقتصاد السوداني، وإقالة عثراته والنهوض به من كَبَواته..؟ وهل يُمكنهما معاً امتلاك الإرادة السياسية الجبّارة لإحداث التحوُّلات المطلوبة لوضع العلاجِ الملائم لإبراء الخدمة المدنية والنظُم الإدارية من سقامِها، ووضع نهاية لأمراضها المُزمنة، حيث لن تتقدّم البلاد خطوةً واحدةً إذا لم تتم هذه الخطوة وتبدأ خلال الفترة الانتقالية..؟
من الضروري الإشارة إلى معضلةٍ حقيقية حتى لا يُشغلنا الزحام وضجيج الفرح المُجنَّح الذي نراه بمجرد الإعلان عن التوصّل لاتفاق، وهي ضرورات مواجهة الذات السودانية بحقائق الأزمة التي تعيشها البلاد، وهي ليست أزمة سياسية ناتجة عن حكومة ونظام تمّ تغييره، ويعكف خَلَفه على صياغة نظام حكم بديل وسط طغيان الشعارات البرّاقة والهياج الشعبوي الحاد.
تواجِهُنا أزمة قيادة حقيقية لابد أن تكون مُلهِمة وقائدة وقادِرة على خوض غمار التحدّيات، وأزمة أخرى تتعلق بالبون الشاسِع والمسافة الواسِعة جدّاً ما بين الطموحات التي ارتفعت إلى أعلى سماء لها، والواقِع المُزري والفُرص الضئيلة والقليلة في نيلِ تلك التطلُّعات، فالوضع الاقتصادي لا يزال في أدنى درجات التأزّم والتخلّف بِقِلّة الإنتاج والاختلال المُريع في هيكله والفجوات الكبيرة ما بين العائدات والمصروفات، إضافة إلى التراجُع التنموي والقصور الخدمي وضعف البنية التحتية التي لا يُمكن للاقتصاد أن يتقدّم قيْدَ أنمُلة بدونها..
كذلك دهمتْنا أزمةٌ اجتماعية حادّة تجسّدتْ وتمظهَرتْ في ما نُعايشه كل يوم من تَدنَّ مريعٍ في القِيم الاجتماعية، وتراجُع الخط الكنتوري الأخلاقي العام، وما بدا من تجليات ذلك في السياسة وممارستها، والتعامُلات العامة وآثارها والسلوك الجماعي المُتّسم بظواهر خدَشتْ مرآة الأخلاق والقِيم، ولا يبدو أن هناك من ينتبِه لما يحدُث الآن في المجتمع من صدوعٍ حادّة تُهدّد تماسُكَه وترابُطه بانتشار وبروز الجهويات والقبليّات والجرأة على الجهْرِ بها وانتهاجِها سلوكاً لا تتم المحاسبة عليه، واستمرأ البعضُ ارتداءَ لبوسِها، ومن الخطورِة بمكان عقب التحوّل الكبير في المجال السياسي ألَّا ينتبه القادة السياسيون إلى التطوّرات الاجتماعية التي باتت تحدّياً كبيراً ينبغي التحسُّب لآثاره وانعكاساته ومُضاعفاتِه فلن تسلم منها السياسة ولن يتعافى المجتمع من أمراضها بسهولة.
وهناك أيضاً مَفاوِز أخرى يتوجّب على شريكي الحُكم الانتقالي التعامُل معها بجدّية وتفاهُم كبيرين، في ما يتعلق بإقرار سياسات الدولة الكُلّية، ومنها توجّهات السياسة الخارجية والتحرّكات في المحيط العالمي حولنا، وهي مسائل قد تجلِب اختلافات بين طرفي الحكم في حال تعارُض التقديرات السياسية، فكل هذه الأمور مُجتمعة يجب أن تُمثّل النقاط الأساس في النقاشات العامة هذه الأيام حتى لا تأخذُنا حالةُ الهياج العاطفي والفرح بقُرب الانتقال إلى الحُكم المدني إلى غفْلةٍ سندفع عما قريب أثمانَها الباهظة.