22يناير 2023
“في الأزمات الفاصلة يكون الأكثر جرأةً هو الأكثر أماناً”.. هنري كسنجر..!
(1)
ضبط النفوس واحترام أدبيات وأخلاقيات المسافة الفاصلة بين الشرعية الثورية والشرعية الدستورية، هو النصر الحقيقي لأي تغيير سياسي، صادق وفعَّال، والمسافة الزمنية الفاصلة بين ردة الفعل العاطفية وردة الفعل القانونية يجب أن تبقى معقولة. الشعوب العابرة سياسياً إلى طرائق حكم جديدة لم تسلم على اختلافها من بعض ألوان العُنف الإجرائي، أو الحدة القانونية التي تأتي في أعقاب التغيير من النقيض السياسي المطروح أرضاً إلى النقيض السياسي المطروح حلاً. أما على الصعيد الاجتماعي فلا يُمكن للإنسانية أبداً أن تختزل نفسها في خيرٍ صرف أو شرٍّ محض، وفقاً لما يُكتب في “خانة” الهوى السياسي أو الهوية الرسمية..!
(2)
المسيرات الشعبية والمصائر السياسية في معظم أرجاء العالم تمضي قُدُماً نحو المزيد والمزيد من المكاسب الديمقراطية. العالم كله يتّجه اليوم نحو شعبنة المناهج السياسية، وأنسنة الانتماءات العرقية، وعقلنة العاطفة الطائفية، وتأطير الحِدّة المذهبية. فالانتماء لجلال المفاهيم وشفافية المناهج – لا عراقة الألقاب وقداسة الأشخاص – أصبح مآلاً وواقعاً جديداً تمخّض عن أحوال وأهوال خاضتها معظم أحزاب الدنيا، حتى تلك التي لا تزال تتعثّر أمام نتوءات وانبعاجات الخارطة السياسية، بعد مقالب وانقلابات الربيع العربي. لكن بعض رموز القوى السياسية في سودان ما بعد الثورة لا يزالون يرفدون الخطوط العريضة لصحف الخرطوم بأحاديث هي أبعد ما تكون عن العقلية التداولية، وهي أحاديث لا تعدو أن تكون فضفضة سياسية، فضلاً عن الخلافات والانشقاقات داخل القوى السياسية من جهة، والاتهامات المُتبادلة بينها وبعض القوى السياسية من جهة أخرى. والسؤال القائم هنا “متى ينعم رجل الحزب بالديمقراطية قبل أن يُنعم حزبه بها على رجل الشارع”..؟!
(3)
الأحزاب السودانية على اختلاف مشاربها، لم تُجر أي مراجعات فكرية لتجاربها، وبالتالي لا تزال الديمقراطية ليست قضيتها الأولى ولا حتى المركزية. ومع مركزية القرار – وانفراد الزُّعماء والقيادات بالتخطيط دون الأغلبية – لا تزال هوية المُؤسِّسين والرُّوّاد تُؤثِّر على طبيعة الحراك السياسي. والنتيجة عجز مُعظم الكيانات الحزبية عن استقطاب الرموز المستنيرة المؤمنة بالديمقراطية الحقّة، وتحوُّلها إلى كيانات نخبوية، وفشلها في أن تصبح مُؤسّسات وطنية تقترب بمواقفها من مواقف الشعب وأولوياته الوطنية. وهكذا، بين الفضفضة السياسية والتصريحات الاستهلاكية تدور دوائر الاشتراطات وتلتف دورات المفاوضات، عطفاً على ما فات، ونصباً على ما هو آتٍ..!
(4)
الحقيقة أن هذه الثورة للثوار، وليس لأي كيان حزبي بعينه من فضلٍ عظيم في خروج الناس إلى الشوارع. فهذه النتائج الآنية وتلك المآلات المرتقبة هي نتاج انفعالات الشعب الصادقة وبسالته التي لا تشبه لزوجة الساسة وحُموضة السياسة وبلادة الأحزاب. ليت الأحزاب السياسية في هذا السودان كانت من القُوة بمكان بحيث يركن إليها الشعب مُطمئناً في أوقاته العصيبة. فالمُعارضة السياسية المسؤولة هي خير حارس لحقوق الشعب، وهي خير رقيب على أيِّ نظام يحكمه. لكن الذي يبدو للعيان هو أنّ أروقة الأحزاب السياسية نفسها بحاجة إلى ثورات داخلية ومظاهرات موازية..!
munaabuzaid2@gmail.com