قسوة الأفكار الرومانسية..!!
لم تتسع مخيلتي لأكثر من هذا الذي أدركته بأنه ما لم تحدث تسوية وسلام حقيقي وشامل يقلل غبائن الماضي والحروب التي انتهجتها تلك الغبائن، وما لم تحدث العدالة والمشاركة على النحو الذي يقلل هشاشة الدولة السودانية يصبح التحدث عن حريات وديمقراطية وحقوق مدنية على الطراز الغربي شيئاً من الأفكار الرومانسية التي لا ترى الأشياء على حقيقتها وحجمها الطبيعي.
إن السودان لا يزال بلداً هش التكوين بسبب مضاعفات العهود الوطنية في الحكم، وما خلفته من أزمات ظلت مختبئة خلف ستائر أقمشة مستعارة تراصت بعضها فوق بعض، فأطلقت نموراً جائعة حد النزق، وبلوغ ذروة جوعها يظهر عندما تبدو هناك فوضى أو محافل جماهيرية مطلبية أياً كان شكل المطالب تنمو لحظتها رغبة البعض في البحث عن حدائق لملء الإمعاء الجائعة المجهدة، والمؤسف أن التنظيمات السياسية والأحزاب مثل تجمعات قوى الحرية والتغيير ليست لديها الرغبة في معرفة هذا الوضع والبحث عن بدائل لتجديد الشعارات والوسائل لعلاج الأزمات المتراكمة، فهذه الكيانات السياسية مصرة على تكرار الطرائق والأساليب المميتة التي تركت كثيرا من القضايا الوطنية مُرحّلة بنفس مسمياتها القديمة بعدما عجزت كل الأنظمة المتعاقبة أن تجد لها الحلول، وفشلت كل المجاهدات الكذوبة وغير الصادقة التي كل يوم تثبت أنها تجدد طريق العودة الى نقطة البدء وليس بلوغ التجديد والتغيير المنشود، والثورة الحالية التي لم تكتمل بعد لمن يمعن النظر والتدقيق يكتشف أنها نتيجة تراكمات ومظالم وطنية تتجاوز مرحلة الثلاثين عاماً فترة حكم الإنقاذ.
والسودان بلد يتسم بضعف كفاءة الدولة في أداء مهامها الأساسية، أقلها العدالة في تقديم الخدمات وبسط الأمن، وشعبه الكريم لدية القدرة على أن يستجيب للدوران في يد أي سياسي جديد يطل على الساحة السياسية، ولم تترك له السياسة المقيتة فرصة أن يمتلك إرادته، لأن كل التنظيمات تقوده بسرعة وتسابق بلهفة للوصول إلى جنة مكاسبها وأن تمرغ الشعب في بلاط دمائها وسقط منها الشهداء، لن تمتلك الأحزاب السياسية ضميراً للوفاء لشعب أتعب نفسه من أجلها منذ الاستقلال وحتى اليوم، وهو لا يزال حائراً، وأمواج ثوراته الهادرة لم تهدأ بعد. فآن الأوان أن يلتقط الشعب أنفاسه اللاهثة لكبح جماح ثورته المتمددة، وينعم بالرفاه، فأي إفراط في الاحتجاجات يمكن أن تتحول إلى حالة اهتزاز لشرعية الدولة السودانية برمتها، ومن التجربة قد تراءت للكل حقائق كثيرة بعضها قريب وبعضها غائم لكنها توالت هذه الأيام لابد من الانتباه لها، لا تحسبوه هيناً أن يخرج المواطنون بعضهم واعٍ بحقوقه، وهو مدرك ماذا يفعل، وكثير منهم تحركه دوافع حثيثة لإثبات الوجود أو التكسب الرخيص، دوافع ربما لا تتسق مع دوافع الثورة، لكنها تراقص رغبات البعض الداخلية كما ينبغي، فيحدث الاحتكاك، ويقع المحظور مثلما يحدث الآن من موت رغم روعة تشكيلات الشباب وجميل بعض شعاراتهم الثورية، لكن في المقابل هناك من يطلق حديثا مستفزاً حد الدهشة بالدرجة وبالشكل الذي يجعل المواطنين في المدن عرضة لمجموعة واسعة من الأخطار والمهددات الأمنية والاجتماعية والاقتصادية.
إذا أردنا ترجمة واقعنا اليوم وأسرار الثورة من البدء إلى اليوم، أقول المنتهى فإن القصة لم تعد نداء على الطريقة التي ينطقها الشباب المتحمس خفيفة بحجم تذوق قطعة الشوكولاتة: (ثورة وي وي وي وي)، وهي شعارات عشقها الشباب كعشقهم لطعم الحرية التي يحاولون الطيران إليها وليس مهما عندهم كان الطيران إلى أعلى أو إلى أسفل، فالتجربة عندهم ليست للكسب أو الخسارة بل محاولة حثيثة للحصول إلى ما يطلبون، ومن بين ذلك تأتي الشعارات القاتلة على شاكلة: (الدم قصادو الدم)، مثل هذه الشعارات سوف تعجل بدخول البلاد في نفق مظلم، وتودي بها إلى الهاوية ما لم يتم تجاوزها بتسوية عادلة تحقق الانتصار للجميع وليس لطرف دون الآخر.
إن النخب السودانية وأصحاب المعرفة والقلم عليهم عبء كبير في قيادة الصف الوطني بحكمة وروية واجتياز هذه الفترة بسلام من أجل الوطن وسلامة ترابه وأهله، ونحن لا زلنا فوق سطح عمارة الأزمة العالية، علينا أن نعمل سوياً من أجل النزول بسلام وبعقلانية وليس بأفكار رومانسية ورؤى وردية كما يفكر مطلقو الشعارات.