من وراء الهتاف التحريضي للجيش؟؟
الدم والعنف بداية أم نهاية مرحلة!!
(1)
حصدت مدافع الدوشكا شديدة الفتك بالجيوش المتحاربة أرواح ثمانية من الطلاب اليافعين بمدينة الأبيض عاصمة شمال كردفان.. وأثار الحدث الذي سُمي”بالإثنين الأسود” ليعيد للأذهان وقائع ذلك اليوم الذي شهدته الخرطوم في 2005م إثر تحطم مروحية يوغندية كانت تقل النائب الأول للرئيس الأسبق د. جون قرنقن ومعها تحطمت آخر آمال وحدة الوطن الذي تشظى بعد ذلك بذهاب الجنوب إلى سبيله.. وفي ذلك اليوم غرقت الخرطوم في دماء أبنائها بعد احتجاجات الجنوبيين العنيفة التي غذتها مشاعر الكراهية وعدم الثقة والشكوك التي راودت النازحين الجنوبيين بأن زعيمهم ومُلهم نضالهم قد قتل كما قتل من قبل وليم دينق في عام 1964م..
وبشاعة الموت في مدينة الأبيض عاصمة كردفان الكبرى جعلت كل قلب ينبض يستشعر الخطر الداهم على الوطن.. والقوات الأمنية التي كانت (تحرس) المصرف الأجنبي الذي يحمل اسم عاصمة البلاد دون مبرر (بنك الخرطوم) تطلق الرصاص على اليافعين من طلاب المرحلة الثانوية وهتافهم المطلبي لتوفير الماء والكهرباء والوقود لسيارات النقل سبب كاف لتحصد مدافع (الدوشكا) أرواح الشهداء في واقعة ستظل خالدة في مخيلة كل أهل كردفان.
ورحم الله شاعر تلك الديار عثمان خالد الذي لو عاش حتى شهد (أولاد حارتنا) في الرديف وفلسطين وود الياس وزقلونا والعشر وأمير الطين وأمير القش وكريمة شمال وجنوب، يحصدهم الرصاص لاعتذر عن أجمل الأشعار التي كتبها وتغنى بها عثمان حسين، مثل إلى مسافرة التي تغنى بها حمد الريح ورفعته إلى مقام فنان النخبة بعد أن كان يغني “للعجبوه الليلة جو ترسو البحر”، ولكن عثمان خالد ابن كردفان هو من كتب..
ـ شوفيني كيفن حاضن هواك غيران عليك كم سنة
ـ شوفيني ساعة الوداع أنا كت دمعة محننة
ـ الليلة يا نعمة حياتي بذوب حنان ويذوب منى
ـ والليلة عايش أمنيات يا حليلة لو كانت ممكنة
ـ احكيك حروف أشواقي ليك وأسمع حروفك وأحضنه
جفت يوم الإثنين الأسود الدموع في المقل والأمهات خرجن لمقابر دليل وود أبو صيفة يودعن فلذات الكبد.. ثمانية جثامين خرجت من أحشاء المدينة التي فقدت (اللالوب) وفقدت ملامحها مع تيار الحزن العميق الذي اجتاح قلبها المفجوع والموجوع بالموت. ورغم فجيعة الحدث إلا أن توحد مشاعر أهل السودان وخروج التظاهرات في الخرطوم ومدني وعطبرة تضامناً مع ضحايا العنف قد كتبت في دفاتر الحضور القومي أن عهداً جديداً لجيل جديد قد أطل، وما كانت الخرطوم فيما مضى من السنوات تلقي بالاً ولا تشعر بدماء من هم أبعد من سكان الكلاكلة والدخينات، وقد مات الآلاف من أهل دارفور وكردفان في حوادث أكبر وفواجع عديدة وحصد السلاح المئات من الأرواح، ولكن الخرطوم ما كانت تشعر بوجع غير أهل السودان النيلي ولا تبكي إلا لحوادث الموت في طرقات ود مدني وشريان الشمال, لكن فاجعة أحداث الأبيض قد أيقظت شعوراً قومياً جديداً.. وتلك من حسنات الحادث البشع والموت الذي حصد أرواح الشباب من طلاب الثانويات وهم يتقمصون روح طلاب الجامعات المغلقة منذ النصف الثاني من العام الماضي جراء الاضطرابات التي شهدتها البلاد..
وكلما اقترب الشريكان المجلس العسكري وقوى الحرية والتغيير من الوصول لنقطة النهاية للمفاوضات المتطاولة تكفلت أيادٍ من داخل الشريكين أو من خارجها بتعطيل قطار التسوية.. وقد هرعت قيادات قوى الحرية والتغيير في اليوم الثاني لوقوع الحادث لمدينة الأبيض لمواساة آباء وأمهات الشهداء في أول بادرة وفاء وحسن تقدير من التحالف للذين قدموا أرواحهم من أجل غد أفضل، وتعثرت المفاوضات جراء التظاهرات والاحتجاجات وتعرض المجلس العسكري لضغوط كثيفة، وحاولت بعض القوى السياسية الاستثمار في دماء اليافعين بالبحث عن مكاسب لها في ساحة التفاوض بينما قفز الحزب الشيوعي مرة أخرى من سفينة الشراكة ورفض أن يصبح جزءاً من حكومة تجمعه بالمجلس العسكري على مستوى المجلس السيادي فلماذا قفز الحزب الشيوعي من السفينة؟؟
(2)
هل أيقن الحزب الشيوعي أن سفينة الشريكين غارقة في البحر لا محالة؟؟ أم للحزب الشيوعي خيارات أخرى يهييء الساحة بقرع الطبول لقبولها.. وقد نقلت الفضائيات العالمية في بث (مباشر) لهتافات خطيرة جداً وتحريضية للجيش للانقضاض على السلطة ومحاولة الوقيعة بينه وبين جزء منه.. ونعني قوات الدعم السريع التي هي جزء من القوات المسلحة.. بالقانون الذي تمت إجازته في البرلمان الذي تم حله في 11 أبريل الماضي.. والهتافات التحريضية للجيش لن يحصد مطلقوها ديمقراطية كما تدعو جموع الشباب، ولكنها دعوة للجيش للانقضاض مرة أخرى على السلطة وإقامة حكم عسكري أشد بطشاً من النظام السابق والحالي والأحزاب حينما تعجز عن الوصول لأهدافها من خلال الوسائل المدنية تتبنى المؤسسة العسكرية تتقرب إليها وتحرضها على (المنكر) في السياسة ألا وهو الانقلابات العسكرية..
وبعد الهتافات التحريضية التي نقلتها الفضائيات لأركان الدنيا.. شهدت الخرطوم مساء الثلاثاء حادثة اعتداء على عربة تتبع لقوات الدعم السريع في شارع المطار بالقرب من شركة كنار للاتصالات، احترقت السيارة العسكرية بكاملها بعد أن تم قذفها (بقنبلة ملتوف)، وهي قنبلة هدفها نسف الاستقرار وزراعة العنف في شوارع الخرطوم والجميع بات يتخذ (بعاتي كتائب الظل) وسيلة لتعليق الأخطاء الجسيمة.. وبالطبع في حال تغبش الوعي الحالي سيذهب البعض مسرعين لرمي النظام السابق وأعوانه باستهداف قوات الدعم السريع مثلما نشر أحد قيادات حزب الأمة في حسابه بالفيسبوك خبراً يقول إن القوة التي استهدفت المتظاهرين في الأبيض وقتلت ثمانية منهم هي مليشيات تتبع للسجين أحمد هارون أمرها من زنزانته في سجن كوبر لقتل تلاميذ حي ود الياس الذي يقطنه هارون وأسرته؟؟ وحينما يغبش وعي الناس ويتم تجهيلهم.. وبث الشائعات والروايات غير الواقعية يجد مثل هذا الحديث من يصدقه لأن أكثر الناس لا يعقلون.. ولكن الاعتداء على عربة قوات الدعم السريع تبعتها حادثة أخرى يوم الأربعاء بالاعتداء على سيارة ضابط منسوب لجهاز الأمن حدثت مشاجرة بينه وأحد المواطنين مثل عشرات المشاجرات التي تقع بين السائقين في الطرقات العامة ولكن بسبب التعبئة السالبة ضد القوات النظامية تم حرق سيارة الضابط.. ورشقه بالحجارة مجرد أن تعرف المواطنين على هويته كضابط بجهاز الأمن.. وقد اعترف الفريق البرهان في حواره مع نخبة مختارة من الصحافيين وبثته القنوات السودانية يوم الثلاثاء الماضي بأن الشرطة لا تؤدي واجبها الآن بسبب النظرة السالبة للشرطة من قبل المواطنين بعد الثورة!!
(3)
حوادث العنف التي شهدتها البلاد في الأسبوع الماضي تنذر بخطر ماحق.. وتهديد جدي للنظام الديمقراطي الذي ظل الشعب يحلم به ويتغنى شعراء السودان للوطن الشامخ والعاتي ووطن الخير الديمقراطي.. لكن لا قيمة للديمقراطية من غير أمن ولا حرية لخائف ومرعوب في نفسه وعلى أسرته.. ولا ديمقراطية في مناخ الانقسامات الطائفية والمذهبية والدينية.. والسودان شهد تراجعاً للصراع (الأيدلوجي) ولكن تنامت روح الشر والانتقام وأطلت بوادر الحالة الليبية التي جعلت الدولة الأغنى في القارة الأفريقية تتمنى عودة نظام العقيد القذافي.. حتى يطمئن الشعب على نفسه من صراع المليشيات وصراع القوى الإقليمية في الأراضي الليبية ومع الخوف من بوادر العنف التي أطلت في الساحة برأسها فإن الأوضاع الاقتصادية بدأت في التردي مرة أخرى بعودة الصفوف إما بحثاً عن جالون البنزين والجازولين أو من أجل الحصول على قطعة من الخبز الحافي.. وهي من الأسباب التي دفعت الجوعى والمحرومين من أموالهم في المصارف للثورة ضد النظام السابق والإطاحة به.. ولا يكف أهل السودان عن السؤال عن الأموال التي قالت المملكة العربية السعودية ودولة الإمارات أنها تكفلت بها لإنقاذ الاقتصاد السوداني؟؟ كم تبلغ تلك الأموال، ومتى دخلت خزانة السودان، وكيف تم التصرف فيها؟؟ ولماذا لا يزال الوضع بالغ السوء على صعيد توفير الخدمات الأساسية؟؟
(4)
أطلقت السلطات الأمنية يوم الإثنين نقيب الصحافيين السودانيين ونقيب الصحافيين الأفارقة الأستاذ الصادق إبراهيم أحمد الشهير (بالرزيقي) بعد احتجاز تعسفي لمدة (6) أيام.. وجاء اعتقال الرزيقي متزامناً مع اعتقالات قادة القوات المسلحة من كبار الضباط وقيادات في حزب المؤتمر الوطني والحركة الإسلامية بعد إعلان السلطات عن محاولة انقلابية تم إحباطها يقودها رئيس الأركان السابق الفريق هاشم عبد المطلب..
وشكل اعتقال نقيب الصحافيين مفاجأة كبيرة لزملائه في الوسط الصحافي داخلياً وخارجياً.. ولزملائه في الاتحادات القارية والدولية، حيث استعاد السودان موقعه في تلك الاتحادات بفضل حسن أداء نقيب الصحافيين الرزيقي، ومن قبله الدكتور محيي الدين تيتاوي.. تفاجأت نقابات الصحافيين في مصر وتونس وتركيا وفرنسا وهولندا وكينيا بأن زميلهم في السودان قد وضع قيد الاعتقال على خلفية انقلاب عسكري أعلنته السلطات.. اعتقلت السلطات قادة في حزب المؤتمر الوطني وفي الحركة الإسلامية، ولأن هؤلاء في دولة تقع ضمن دول العالم لا عجب في اشتراك مدنيين في محاولة انقلابية، ولا عجب في تخطيط عسكريين لقلب النظام الحاكم رغم أن الاتحاد الأفريقي قد أسقط في أيادى الانقلابيين الاعتراف بهم حال إقدامهم على تنفيذ انقلاب عسكري، ولم يحدد الاتحاد الافريقي ما اذا كان الحكومات المنقلب عليها ديمقراطية أم عسكرية؟!
واعتقال السياسيين في المحاولات الانقلابية خاصة في دول العالم الثالث أمر طبيعي.. وغير الطبيعي أن يتهم صحافي في مقام الرزيقي بمحاولة انقلابية, والرزيقي تصدى منذ الحادي عشر من أبريل الماضي للدفاع عن المجلس العسكري، أشهَرَ قلمه السيال ونافح بضراوة وشجاعة عن المجلس العسكري الذي ظل مكشوف الظهر.. رغم اجتهاده في حفظ الأمن والانتقال بالبلاد من مرحلة الشمولية للديمقراطية وحالة الانفلات العامة في الشارع.. إلا أن المجلس العسكري واجهته حملة إعلامية من (الشركاء المفترضين) من قوى اليسار ونهشت وسائل الإعلام في عظم ولحم الفريق حميدتي والبرهان لإرغامهما على تقديم التنازلات وتجريد نفسيهما وتسليم السلطة لتحالف غير مفوض من الشعب لإدارة البلاد.. وكان لتصدي الصادق الرزيقي وأقلام وطنية أخرى أثرها في رد الهجمة المناوئة, وتعرض الرزيقي لحملات إعلامية لكسر عظمه والنيل منه بسبب مواقفه الداعمة للمجلس العسكري وانتاشته سهام الإسلاميين الرافضين لمبدأ الوقوف مع المجلس العسكري بزعم أن (العسكر) سينقلبون على الإسلاميين حينما تتقارب خطاهم مع اليسار.. ووصم البعض – أي الإسلاميين – من يدعم المجلس العسكري بالهارب من السفينة الغارقة!! ولم يكترث الرزيقي لكل ذلك، ظل ثابتاً في موقفه منافحاً عن المجلس العسكري متصدياً للدفاع عن قوات الدعم السريع.. ولكن المفاجأة غير المتوقعة أن يذهب الرزيقي إلى المعتقل ويفرج عنه بعد (6) أيام دون توجيه تهمة له أو تقديمه إلى المحاكمة!!
اعتقال الرزيقي جعل أكثر المدافعين عن المجلس العسكري يتحسسون أقلامهم.. أين هي ولماذا تضع رهانها على من لا وفاء لهم.. ولا تقدير لعطاء المنافحين عنهم..