صلاة الاستسقاء سنة غائبة
لقد تأخر نزول الأمطار في هذا العام .. وقد أوشك شهر يوليو على الانتهاء.. وهذا الحال يذكرنا بعبادة عظيمة وشعيرة كريمة فعلها النبي عليه الصلاة والسلام.. وسارت على ذلك من بعده أمته المفضّلة على غيرها من الأمم.
فقد استسقى عليه الصلاة والسلام وطلب من ربه الجواد الكريم نزول الغيث عند تأخره.. وأجاب ربُّ العالمين دعاءه، فإنه سبحانه على كل شيء قدير ولا يعجزه شيء في الأرض ولا في السماء.. وأظهر عليه الصلاة والسلام الفقر والحاجة لربه فدعا واستسقى، وشرع لأمته ذلك.. وحثّ على التوبة.. والاستغفار والتضرع لله العلي الغفار.. وقلب رداءه في خطبته إظهاراً لشدة الحاجة والافتقار وطلباً لأن يغير الله الحال، ويرحم الرحمن عباده.. وقد أجمع المسلمون على مشروعية هذه الشعيرة العظيمة.. وعلى فضلها .. وبين العلماء حكمها وأنها من فروض الكفايات.. فهي من أعظم الأسباب المشروعة لنزول المطر الذي به تحيا الأرض وتخرج زينتها.. عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ رضي الله عنه أَنَّ رَجُلاً دَخَلَ الْمَسْجِدَ يَوْمَ جُمُعَةٍ مِنْ بَابٍ كَانَ نَحْوَ دَارِ الْقَضَاءِ وَرَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم قَائِمٌ يَخْطُبُ فَاسْتَقْبَلَ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم قَائِمًا ثُمَّ قَالَ يَا رَسُولَ اللهِ هَلَكَتِ الأَمْوَالُ وَانْقَطَعَتِ السُّبُلُ فَادْعُ اللَّهَ يُغِيثُنَا فَرَفَعَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم يَدَيْهِ ثُمَّ قَالَ اللَّهُمَّ أَغِثْنَا اللَّهُمَّ أَغِثْنَا اللَّهُمَّ أَغِثْنَا قَالَ أَنَسٌ، وَلاَ وَاللَّهِ مَا نَرَى فِي السَّمَاءِ مِنْ سَحَابٍ، وَلاَ قَزَعَةً وَمَا بَيْنَنَا وَبَيْنَ سَلْعٍ مِنْ بَيْتٍ، وَلاَ دَارٍ قَالَ فَطَلَعَتْ مِنْ وَرَائِهِ سَحَابَةٌ مِثْلُ التُّرْسِ فَلَمَّا تَوَسَّطَتِ السَّمَاءَ انْتَشَرَتْ ثمَّ أَمْطَرَتْ فَلاَ وَاللَّهِ مَا رَأَيْنَا الشَّمْسَ سِتًّا ثُمَّ دَخَلَ رَجُلٌ مِنْ ذَلِكَ الْبَابِ فِي الْجُمُعَةِ وَرَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم قَائِمٌ يَخْطُبُ فَاسْتَقْبَلَهُ قَائِمًا فَقَالَ يَا رَسُولَ اللهِ هَلَكَتِ الأَمْوَالُ وَانْقَطَعَتِ السُّبُلُ فَادْعُ اللَّهَ يُمْسِكْهَا عَنَّا قَالَ فَرَفَعَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم يَدَيْهِ ثُمَّ قَالَ اللَّهُمَّ حَوَالَيْنَا، وَلاَ عَلَيْنَا اللَّهُمَّ عَلَى الآكَامِ وَالظِّرَابِ وَبُطُونِ الأَوْدِيَةِ وَمَنَابِتِ الشَّجَرِ قَالَ فَأَقْلَعَتْ وَخَرَجْنَا نَمْشِي فِي الشَّمْسِ. رواه البخاري ومسلم.
في هذا الحديث العظيم فوائد كثيرة.. منها الالتجاء إلى الله عز وجل فإنه وحده هو الذي يجيب المضطر ويكشف الضر ويغير الأحوال، وإذا كان أفضل الخلق وأتقاهم وأعبدهم لله محمد بن عبد الله عليه الصلاة والسلام يدعو ربه ويطلب منه السقيا فعلى غيره من عباد الله أن يقتدوا به في ذلك وفي غيره، وإن مما علمه النبي لأمته وكان من سنته أن يقول بعد كل صلاة مفروضة (اللهم لا مانع لما أعطيت ولا معطي لما منعت ولا ينفع ذا الجد منك الجدُّ). ومن فوائد الحديث، عظم قدرة الله جل وعلا الذي سمع الدعاء بسمعه الذي وسع الأصوات كما يليق بجلاله.. وأجاب دعاء نبيه الكريم عليه الصلاة والسلام.. ومن فوائد الحديث رأفة النبي بأمته ورفقه بهم فقد أجاب السائل لما طلب، ولم يمنعه من ذلك أنه يخطب خطبة الجمعة، فهو الرفيق بأمته الرحيم بها عليه الصلاة والسلام.. ومن فوائد الحديث أن الاستسقاء يشرع ولو في خطبة الجمعة فقط، أي بدون أن يخرج الناس ويصلي بهم الإمام ثم يخطب بهم، وقد بوّب الإمام البخاري في صحيحه على هذا الحديث بقوله (باب الاستسقاء في الخطبة يوم الجمعة) وقوله (باب الاستسقاء على المنبر ) وغيرهما، وعليه فإنه يشرع لخطباء المساجد أن يطلبوا السقيا في أثناء خطبتهم يوم الجمعة ويؤمن على دعائهم المصلون ويرفع المصلون أيديهم أثناء دعاء الاستسقاء فقد ثبت رفع الأيدي في هذا الدعاء (جماعة) دون غيره.. ولا ينبغي للأئمة أن يغفلوا عن ذلك لا سيما عند تأخر نزول الأمطار وعن صفة الصلاة والخطبة والدعاء نقرأ في موطأ إمام دار الهجرة مالك بن أنس رحمه الله أنه (سئل عن صلاة الاستسقاء كم هي؟ فقال ركعتان ولكن يبدأ الإمام بالصلاة قبل الخطبة فيصلي ركعتين ثم يخطب قائمًا ويدعو ويستقبل القبلة ويحول رداءه حين يستقبل القبلة ويجهر في الركعتين بالقراءة وإذا حول رداءه جعل الذي على يمينه على شماله والذي على شماله على يمينه ويحول الناس أرديتهم إذا حول الإمام رداءه ويستقبلون القبلة وهم قعود). وقد خرج النبي عليه الصلاة والسلام لصلاة الاستسقاء خاشعاً متواضعاً مفتقراً إلى الله، فقد روى أبو داود وغيره عن عبد الله بن عباس رضي الله عنهما قال: خَرَجَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم مُتَبَذِّلاً مُتَوَاضِعًا، مُتَضَرِّعًا، حَتَّى أَتَى الْمُصَلَّى – زَادَ عُثْمَانُ، فَرَقَى عَلَى الْمِنْبَرِ، ثُمَّ اتَّفَقَا، – وَلَمْ يَخْطُبْ خُطَبَكُمْ هَذِهِ، وَلَكِنْ لَمْ يَزَلْ فِي الدُّعَاءِ، وَالتَّضَرُّعِ، وَالتَّكْبِيرِ، ثُمَّ صَلَّى رَكْعَتَيْنِ، كَمَا يُصَلِّي فِي الْعِيدِ.
إننا بحاجة في مثل هذه الأيام لأن نقيم هذه الصلاة العظيمة وقد تأخر نزول الأمطار، والبلاد والعباد بحاجة إليها، ولنحيي هذه السنة الشريفة ونقتفي أثر أفضل من دعا ربه وافتقر والتجأ إليه نبي الرحمة عليه الصلاة والسلام.. ولنتناصح ويذكر بعضنا البعض بالاستغفار والتوبة النصوح والإقلاع عن كل ما نهى الله عنه ورسوله، وترك الذنوب والمعاصي وسائر البدع والمخالفات ولتنتشر الدعوة للإقلاع عن الشرك والبدع والربا وأكل أموال الناس بالباطل والزنا وغيرها من الموبقات، والبعد عن ظلم الخلق والتعدي على حقوقهم، فإن ذلك وغيره من أسباب عدم نزول الأمطار، ومن أسباب حرمان الرزق وعدم بركته، وقد قال الله تعالى: (وَمَا أَصَابَكُمْ مِنْ مُصِيبَةٍ فَبِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ وَيَعْفُو عَنْ كَثِيرٍ ).
أتمنى أن يدرك أصحاب القنوات التي تنشر الفساد وتقدم البرامج الغنائية في شهر رمضان المبارك لتصد الناس وتحول بينهم وبين الإفادة من الموسم الكريم، أتمنى أن تقلع مما تقدم من هذه البرامج الساقطة والتي هي من أسباب ما بنا من قحط وبلاء.. وإن الواجب علينا جميعاً أداء الحقوق سواء كانت للخالق أم للمخلوقين، وقد صحّ عن النبي عليه الصلاة والسلام فيما رواه الطبراني وصححه الألباني عن ابن عمر رضي الله عنهما أن النبي عليه الصلاة والسلام قال : (لم يمنع قوم زكاة أموالهم إلا منعوا القطر من السماء ولولا البهائم لم يمطروا). وقد درجت بعض بلاد المسلمين ومنها بلاد الحرمين الشريفين على تحديد يوم معين لتصلى فيه صلاة الاستسقاء في جميع المساجد التي يصلى فيها صلاة الجمعة حيث في ذلك إعانة للناس على أدائها، ولما في ذلك من التوبة والاستغفار والدعاء وإظهار الافتقار من سائر أفراد المجتمع، كما درجت على تكرار الحث على الصلاة مرات عديدة عند عدم نزوله، وأرجو أن توفق الجهات المختصة في بلادنا لحث الناس على ذلك، وحملهم على أداء هذه الشعيرة المباركة.. أسأل الله أن يغيثنا غيثاً مغيثاً سحاً غدقاً.. اللهم ارحم عبادك وبلادك وأحيي بلدك الميت.. اللهم إنا خلق من خلقك فلا تحرمنا بذنوبنا فضلك، ولا تؤاخذنا بما فعل السفهاء منا، وارحمنا إنك أنت أرحم الراحمين.