محمود مجدي موسى الجدي يكتب : دارفور.. الطريق نحو المصالحة الوطنية
3يناير 2023
عند ما نسمع لفظ (مصالحة أو تصالح) يتبادر إلى الذهن أنّ هناك خلافاً قائماً بين شخص وآخر أو بين أفراد أو جماعات داخل المجتمع يتطلب تدخُّلاً من شخص ما لاتخاذ إجراءات معينة للمصالحة بينهما وإزالة ذلك الخلاف، ليعود الوضع إلى طبيعته القائمة على الإلفة والسلام.
وعند ما نسمع مصطلح (المصالحة الوطنية)، يتبادر إلى الذهن ثمة أمر أكبر وخطب جلل قد أصاب مجتمع دارفور برمته جعله في خلاف مستمر وفي تشاحن وبغضاء وفرقة وصراعات، وبالتالي فإن الوضع لن يعود إلى طبيعته في المجتمع من الأمن والاستقرار ونبذ خطاب الكراهية، إلا بإجراء مصالحة وطنية بين كافة أطياف مجتمع دارفور دون استثناء أو إقصاء لمكون لأنهم أصحاب المصلحة العليا في السلام المجتمعي، خاصةً في ظل الحُكم الإقليمي، وهنا لا نجد مبرراً للأرواح التي تزهق والدماء التي تسيل والقرى والفرقان التي تُحرق والأسواق التي تُنهب والثروة التي تُسرق والزرع الذي يُتلف وما تخلفه الحرب من دمار نفسي واقتصادي وجيوسياسي، لا سيّما الأحداث الأخيرة في ولاية جنوب دارفور وولاية وسط دارفور.
وعند ما ننظر للمجتمع الدارفوري اليوم نجد أن الصراعات السياسية والقبلية قد أثقلت كاهله ومزّقته ودمّرت بنيانه ومقدراته، ومزقت أواصر الإخوة والمحبة التي كان ينعم بها أبناؤه، وهنا ما كان للإقليم إلا أن يتحمّل تبعات الصراع في المركز بين أبنائه المطالبين لحظهم في التنمية بعد تهميشهم وذلك المركز القابض والمتسلط، فبدأت أولى نواة الصراع المسلح وهو نتاج طبيعي لأنظمة أتت ممتطية الدبابة وضاغطة على الزناد ليشهد أكبر مأساة إنسانية في تاريخه الحديث المعاصر، ولكن ما زاد الوضع تعقيداً أنّ تلك الخلافات التي غالباً ما تكون داخل المركز وبين رفقاء السلطة، تنعكس هناك بنوع آخر لتقود إلى مُواجهات شاملة تطغى عليها الجهوية والنفعية وربما مشاهد تدخلات خارجية لبساطة الإنسان الدارفوري وطبيعة جغرافيته المشجعة أصلاً لمثل هذه الصدامات. فنستخلص من ذلك أن معظم ما يعانيه الإقليم كان نتاج وثمن وانعكاسات لما يدور داخل أروقة الحكم المركزي، ناهيك عن الإهمال المتعمد لإنسان الإقليم والبُعد كل البُعد عن وضع حلول لطبيعة صراعاته وهذا لا نبرأ منه أي نظام، بل فقط يتفاوتون في درجات تعميق الأزمة وبعض ما يجودون به أحياناً من محاولات من ملامسة الوضع غالباً ما تُفضي إلى اتفاقيات هي أشبه بقروض ومساومات من كونها محاولات لتفهم طبيعة الأزمة فالكثير من الاتفاقيات والمفاوضات التي ملت منها الوساطات والعواصم العربية والأفريقية ما كانت إلا مغازلات سياسية لكسب رصيد سياسي أو تحقيق معادلة ترضي طرفاً خارجياً أو داخلياً، مع أخذهم بنظرية اضطراب دارفور يضمن استقرار الخرطوم ويقلل من فرص أبناء الإقليم في الحُكم لانشغالهم بالصراع الداخلي والانقطاعة النفسية التي تسببها الحروب هناك، فينقسم المجتمع ويصطف الكل حول قبيلته، مما يضعف صعود شخص تتّفق حوله مكونات الإقليم.
تلك الأوضاع وذاك المشهد أدى إلى أن يستبيح الدارفوري دم ومال وعرض وكرامة أخيه دون مراعاة لروابط الإخوة والدين والإنسانية، ناهيك عن الجغرافية الواحدة والمصير المشترك.
هذا الخلل الكبير الذي أصاب مجتمع دارفور يُحتم على العقلاء من أبنائه البحث والنظر في الآليات والسُّبل الكفيلة بإخراجه من محنته التي هو فيها، وإعادة العلاقات والنسيج الاجتماعي إلى طبيعته المرتكزة على الوئام والانسجام، وأول طريق ينبغي على العاقل الحريص أن يسلكه لتحقيق ذلك هو أن يشخص ويحدد المشكلة ويتحرّى ويغوص ويتعمّق في جذور ذلك الصراع المرير الذي اوصل المجتمع الى ما وصل إليه الحال في دارفور، ليمكن فهم طبيعة ذلك الصراع وأسبابه ودوافعه ومَن تسببوا في تفجره وإذكائه، فإذا ما فهمنا طبيعة المشكلة وشخّصناها يسهل علينا بعد ذلك إيجاد الحلول والمُعالجات اللازمة والمناسبة لها.
وقبل الدخول في عملية المصالحة الوطنية، علينا إدارة حوار مركزي داخلي يكون جادا وعميقا وشفافا يجمع أبناء دارفور خاصة (الإدارات الأهلية، حكومة الإقليم، جمعيات روابط اتحادات، سياسيين، مثقفين فنانين، رياضيين، مهتمين، ناشطين، قوى الكفاح، طرق صوفية، رجال اعمال، القوات النظامية ومتبقي الشخصيات الاعتبارية)، لنفهم جميعاً أن مفهوم المصالحة بشكل عام يهدف إلى تحقيق المبادئ العامة للعدالة وليس تحقيق العدالة الكاملة المطلقة، أي تحقيق عدالة نسبية تقوم في الأساس على إيجاد حلول توفيقية ترضي كافة الأطراف بحيث يتنازل طرف أو أطراف عن جزءٍ أو أجزاء من حقوقهم أو مطالبهم ليصل الجميع إلى حل وسط يرضيهم، بمعنى آخر أنّ المُصالحة الوطنية لن يكون فيها غالبٌ أو مغلوبٌ.