عادل سعيد.. جوهر وطن ..!!
الصدفة وحدها أحياناً تجمعك بإنسان كبير سيما نحن نعيش تاريخاً تراجعت فيه الأشياء، وقلت فيه الثقة والمروءة، بل انعدمت في أوقات كثيرة.
ورغم عواصف الحياة وتقلباتها التي بدلت كثيراً من الموروثات والسلوكيات الاجتماعية النبيلة إلا أنني مررت بموقف جسد أمامي معاني الحديث النبوي الشريف: (الخير باق في أمتي إلى يوم القيامة). وبالرغم من ضعف الحديث وحديث كثير من المفسرين والأئمة الذين قالوا بأنهم لم يجدوا له أصلاً لكنه يظل من المقاصد الحسنة في الدين والحياة.
هذا الأسبوع ساقتني خطاي الى موقع لبيع الإسبيرات المستعملة (سكند برة الأصلي) بالسوق المركزي الخرطوم صاحب المحل يسمى (عادل سعيد) وهو رجل مشهور أرشدني إليه ميكانيكي آخر يعمل بسوق الشقلة في الفتيحاب، فعندما وصلته قلت له جاييك بتوصية زميلك في الفتيحاب لم يسألني عن ما هو الشخص، ولم أكن أعرف اسمه، لكن عادل خدمني بصدق وتجرد وهمة أعادت إلي ثروة الثقة بالنفس المفقودة، وإحياء الشخصية السودانية التي فقدت في ذروة الأيام التي فنينا وقتها في الحياة ومشاق أيامها كان بالنسبة لي أنموذجاً من الحق يستحق التوثيق.
لقد قمت بشراء إسبيرات ولم تكن المبالغ التي بحوزتي كافية فتبقت له قروش طرفي فمنحته رخصة القيادة التي تخصني كوثيقة ضمان إلى حين استكمال المبلغ فرد لي بثقة حادة وتلميحات قوية بأنه لن يستلم مني أي وثيقة، وعندما أصررت على أن يسجل بياناتي الشخصية، لأنه لا يعرفني رفض ذلك لمجرد تسجيل رقم هاتفي، وفي الأثناء قال: (ياخ شيل بضاعتك وأمشي ومثلما أتيتني وحدك حتماً ستعود إلي وحدك لتسدد ما عليك من مطلوبات).
صدقاً كان رجلاً نموذجاً في الثقة، وواضح أن التجربة قد دربته وسقاه العمر المهني مضادات الكذب لذلك لم تعقه قيود تكسب المال إلى الشك، وهو لم يحدد أجلا بعيدا ولا قريباً لسداد المبلغ، لم يكن أمامي شخص همه المال كما هي تطلعات تجار اليوم، وباتت من أهم مشاغلهم وأولوياتهم.
ذات يوم حكى لى أحد أقربائي بأنه تواصل مع تاجر كبير في مدينة النهود تربطه به صلة رحم استفسره عن سعر المحصولات فذكر له رقماً خرافياً فسرعان ما قال السائل: ( فلان حرام عليكم ياخ)، وهو يقصد السعر الجنوني فرد التاجر 🙁 يا اخ انت راجل طيب ـ نحن تجاوزنا الحرام والآن نحن شغالين ربا)، قالها دون أن يرتجف له جفن وهو يباهي باستغلال وظلم الناس في الأعمال التجارية غير مكترث لتحذيرات رب العزة التي وردت في أكثر من آية قرآنية منها قوله تعالي :
(وَمَا آتَيْتُم مِّن رِّبًا لِّيَرْبُوَ فِي أَمْوَالِ النَّاسِ فَلَا يَرْبُو عِندَ اللَّهِ ۖ وَمَا آتَيْتُم مِّن زَكَاةٍ تُرِيدُونَ وَجْهَ اللَّهِ فَأُولَٰئِكَ هُمُ الْمُضْعِفُونَ ).
إن موقف عادل سعيد ذكرني بقصة مشابهة رواها لي الخال المرحوم آدم محمد علي (آدم سجارة) أشهر تجار كردفان بمدينة الأبيض، قال إنه ظل في مسيرته التجارية يتعامل مع تاجر في مدينة الفاشر لمدة تجاوزت الـ(17) عاماً يتراسلون دون أن يلتقيا أو يعرف أحدهما الآخر كان يرسل له البضائع وبثقة الآخر يبعث القيمة وقتما يشاء، حتى في ذات صيف مرض الرجل وحضر مضطراً لمعاودة الطبيب في الأبيض فسأل عن صديقه فالتقيا وتعانقا شديداً ونزل معه بمنزله ومكث معه طيلة أيام العلاج حتى تعافى وعاد إلى وطنه الصغير (الفاشر) وهو أكثر سعادة بلقيا رجل ظل يجمعهما التلكس والتلفون النوع القديم كان الرجل فرحاً بعلاقته بالخال أكثر من نعمة العافية.
هكذا كانت الثقة بين أبناء الوطن الذي كان صدقهم منجاة وطريق البر إلى الجنة قبل تلاحم الوشائج الوطنية وتماسك لحمة الوطن. نعم في زماننا هذا أصبحت مثل هذه النماذج قليلة بل شبه معدومة في حياتنا حالياً، لذلك نموذج عادل سعيد يستحق الاحتفاء والتوثيق، وسأظل على المستوى الشخصي أذكره لثقته وتمسكه بمبادئ وقيم الأولين. اللافت أنه في اليوم الثاني عندما ذهبت إليه للوفاء بعهدي لم أجده بحثت عن هاتفه، فإذا به يقول لي بكل بساطة وطيبة خاطر أن أسلم المبلغ إلى شخص اسمه آدم موجود أمام المحل التجاري. يا سلام على عادل سعيد رجل كبير يعيش في زمن تقزمت فيه كثير من الأشياء.
لا أريد أن أقصم ظهرك لكنك تستحق وزيادة، دمت بخير .