بورتريه: سليمان عبد الجليل.. البكاء على أطلال حلفا!!
(1)
كان الراحل الشاعر سليمان عبد الجليل.. نجماً ساطعاً في سماء الفن السوداني.. شاعراً وناقداً شريفاً لم يسيئ لفنان.. ولم يبخس أعمال فنان حتى الذين حاولوا النّيل منه.. كان معهم متسامحاً وكريماً.. وربطته برموز الفن والشعر في بلادنا أقوى الصلات.. ويأتي على رأسهم الفنان محمد وردي وسيد خليفة وحمد الريح.. وبقية العقد الفريد.. وعلى رأس الشعراء، شاعر الشعب الكبير محجوب شريف.. الذي ربطته به علاقة قوية.. وازدادت قوة بعد دخول محجوب شريف مُعتقلات مايو التي استمرّت سنوات.. لم ينقطع فيها سليمان عبد الجليل من منزل الحاجة مريم والدة محجوب شريف.. نسأل الله تعالى لها الرحمة، حتى أطلق عليه محجوب شريف «جبر الله خمسين» ولهذه التسمية سر عظيم أعلنه محجوب شريف وكشفه قبل عامين ويزيد وفي ندوة شعرية.. متحدثاً عن إنسانية سليمان عبد الجليل ومواقفه الرجولية.. وكذلك الشاعر سيد أحمد الحردلو.
(2)
لقد أسهم الفقيد في تسليط الأضواء على فنانين كُثر.. أصبحوا بعد فترة من عمالقة الغناء في بلادنا، كما قام برعاية عدد كبير من الشعراء الشباب الذين سطعوا في سماء الشعر الغنائي السوداني وذلك برعايتهم وتوجيههم ونشر إنتاجهم الشعري.. سليمان لم يعرف الحقد على أحدٍ ولم ينم ليله وهو غاضبٌ على أحد أو غاضب منه أحد.. أطلق اسم صديقه «الحردلو» على ابنه الأول.. وفاءً لصداقة ربطت بينه وبين الشاعر الكبير سيد أحمد الحردلو.
(3)
والراحل المقيم سليمان من أهالي حلفا.. وكتب قصيدته الشهيرة «الرحيل» التي غنّاها حمد الريح.. والذي انطلقت به بسُرعة الصاروخ في سماء الأغنية.. ومُناسبتها ترحيل أهلنا في حلفا.. من حلفا القديمة إلى القرى الجديدة.. وقد عبّر من خلال هذه القصيدة العظيمة عن مأساة أهل حلفا.. ومعاناتهم وسكب حُزنه العميق على الأرض التي وُلد فيها.. وعاش طفولته فيها.. والقصيدة كانت مملوءة بالرمز السياسي تارةً، وبالوضوح تارةً أخرى.
(4)
سليمان عبد الجليل بكى الأطلال في حلفا القديمة حينما غمرتها مياه السد، ووقف مُدافعاً كنوبي غيُور على تاريخه وتراثه ومرتع ذكرياته، ولا شك في أنّ أغنيته الشهيرة (الرحيل) هي نتاجٌ لذلك الهمج الذي أصاب حلفا في مقتل وجعل أهلها يُغادرون إلى مكان آخر سموه (حلفا الجديدة) تيمناً بالمدينة الكبرى، وحنيناً، وحُبّاً، ووعداً بالرجوع وإن طال الزمن.
(5)
سليمان عبد الجليل اختط طريقاً سار فيه وحيداً رافعاً فيه راية التحدي للتهجير والتغريب . وكما كان يفعل الخليل في جل قصائده عندما يعمد لذكر المرأة في أشعاره وتكون الغاية هي الوطن كان سليمان عبد الجليل. كتب شاعرنا ثلاث قصائد شهيرة تكاد تكون ذات وحدة موضوعية واحدة ، فإذا نظرت إليها كوحدة واحدة تجد أنها نوَّعت المشاهد داخل القصيدة الواحدة ، بحيث تبدو في الظاهر مجزأة ، منفصلة، ولكنها في النهاية تكون رؤية واحدة ، هي تعميق موقف ما بكل تفاصيله في حياة شاعرنا عموماً.
(6)
بعد رحيل سليمان بعدة أشهر، ظهرت آخر كتاباته الشعرية وكانت عبارة عن مقطع شعري لم تكتمل فكرته الكتابية إلى النهاية، وبما أن الأستاذ الشاعر محمد أحمد سوركتي كان من أقرب أصدقائه وعاش معه عمراً جميلاً جعل الإحساس بينهما متصلاً ومترابطاً لا يعرف الفكاك حتى بعد رحيل سليمان عبد الجليل.. حيث قام سوركتي باستكمال المقطع الشعري الذي تحصلت عليه الأحداث.. ومن يقرأ القصيدة يقول إن كاتبها شاعر واحد وليس اثنان.. وفي هذه المساحة ننشر القصيدة وننتظر من قراء فنون أن يتعرفوا على الجزء الذي كتبه سليمان عبد الجليل والجزء الآخر الذي أكمله سوركتي.. وقال في بعض مقاطعها:
القمرة منك شايلا شي.. القمرة منك شايلا شي
ولامن يغطيها الغمام.. دي القمرة ترجع يا سلام
وتضوي زي بدر التمام.. وكتين تشوف بؤرة وشي
الطلة بتفج الغيوم.. وتفتح نوافذ للنجوم
علشان تقالدك وتنتشي.. والنظرة تسحر كل زول
ومعاها حتى الشوق يقول.. باقي العمر ليك حوشي.