(1)
في فترة ما ليست ببعيدة .. كنت مريضاً واستدعى الأمر نقلي بالإسعاف على وجه السرعة من مدينة كوستي الى الخرطوم .. حيث حللت بمستشفى يستبشرون ومن حسن حظي بأن جسدي النحيف تقبل العلاج سريعاً وتعافيت في زمن وجيز.. ولكني دوما أقول إن سبب التعافي الأول لم يكن أبداً عبر العقاقير الطبية ولكن تعافيت (بالمحبة).. فهي كانت مباشرة بعد الله سبحانه وتعالى.
(2)
كان حضور الأصدقاء والأحباب هو الدافع النفسي والمُلهم للتعافي.. ولعل الجنرال حسن فضل المولى واحدٌ من أولئك الأحباب الذين وجدتهم حولي.. زارني الرجل وكعادته معي يقضي زمناً طويلاً مليئاً بالأنس والمداعبة .. فهو يمتلك روحاً في منتهى اللطافة والحصافة.
(3)
في زيارته تلك سألته عن الشخصية التي يرتب للكتابة عنها في مقالاته القادمة.. ولكن الجنرال حسن فضل المولى فاجأني برد عميق وقال بأنه لا يرتب للكتابة عن أي شخصية يكتب عنها ولن يكتب أي حرف ما لم يصل (حدّ الامتلاء) بالشخصية وحينها هي التي تكتبه.. ولعل هذا المنهج هو كلمة السر في كل النجاحات الساحقة
(4)
التي وجدتها المخطوطات الأدبية الرفيعة التي ظلّ يتحفنا بها من وقت لآخر.. ولعل الجنرال أخيراً وجد نفسه في الكتابة وإن كانت غير راتبة.. فهو يتميّز بلغة سلسة ذات سحر وجاذبية يتنقل ما بين الكلمات كالفراشة.. ففي كل سطر مفردة ومعنى مختلف وسياق مُبهر.. ولعل الذخيرة اللغوية الفارعة مكّنته من أدواته الكتابية مما منحه أسلوبية خاصّة في التناول الذي يتوغّل في القراءات العميقة والغوص في أغوار شخصياته.
ولا شكّ أنّ الجنرال كاتبٌ جيدٌ لأنّه في الأصل قارئٌ جيدٌ، وبدون القراءة لن تصبح كاتباً مهما فعلت.. ومن هنا ترتقي القراءة بالكاتب، من هنا جاء قولنا بأن الكاتب الجيد هو في الأصل قارئٌ جيدٌ، لأن الكاتب مثل النحلة؛ تستقي الرحيق من أزهار مُتباينة الألوان والشكل والأنواع، ثم تصنع منه عسلاً ذا مذاق خاص.
المُلاحظ أن كثيرا ممن يكتبون في عصرنا الحالي قلبوا الآية، وكتبوا دون أن يقرأوا، كيف تريد أن تكون كاتباً دون أن تُكلِّف نفسك عناء القراءة؟ كيف تريد أن تصبح لاعب شطرنج ماهر دون أن تتعلّم مبادئ اللعبة، وتقرأ في أصولها وتشاهد مئات المباريات، ثم تبدأ في التدريب والممارسة.؟
(5)
الأمر الآخر المتعلق بالقراءة هو إحساس البعض بأنه يقرأ دون طائل، فما يقرأه ينساه. هذا الإحساس يُصيب فئة ليست بالقليلة، ولكنها مشكلة نفسية وإحساس خاطئ تماماً، فليست هناك كلمة تقرأها وتنساها إطلاقاً، فما تظن بأنك نسيته ترسخ دون أن تدري بالعقل الباطن.. كل تلك المكونات الإبداعية الخلاقة جعلتني أوحي له بأنّ ما يكتبه من مقالات هو مشروع لكتاب فخم يُؤرِّخ ويوثق لكل المقالات حتى يكون متاحاً للجميع وفي مُتناول اليد ومن حق المكتبة السودانية أن تزدان بها هذه المخطوطة حتى يبقى عطرها للأجيال القادمة.
(6)
ولأن الجنرال بما يكتب يثبت حقائق مُهمّة يأتي (جبر الخواطر) في مقدمتها.. كما أنّه يُؤسِّس منصّة لنشر المحبة والسلام والحُب وذلك عين ما فعله في إدارته لقناة الأزرق.. فهي أصبحت قناة متميزة ومتقدمة لأن مديرها يفهم أنّ الإدارة في أساس الاول ابتسامة ومقابلة بلطافة وبشاشة.. فهو حينما كسر الأُطر التقليدية لمفاهيم الإدارة كسرت النيل الأزرق المفاهيم العادية للتكوين البرامجي والرؤية البصرية.. هذه المخطوطة قرأها الجميع بذات المحبة التي كتب بها صاحبها.. ولَعلّ الإشارة البعيدة التي أرسلها الجنرال بكل ما كتب وما بين سطوره هي كلمة (الحب) بكل تجلياتها وسطوعها.