اختط لنفسه أسلوباً غنائية تفرَّد به أغنيات أبوعركي البخيت الأخيرة وأهمية استحضار تجارب الماضي
كتب: سراج الدين مصطفى
(1)
(أبوعركي البخيت .. أنموذجي الطيب) عنوان لمقالة كتبتها في محبة الفنان العظيم أبوعركي البخيت .. توقفت فيها عند تفاصيل كثيرة تخص حياته وتجربته مع الغناء .. وكيف استطاع أن يبني تجربة غنائية مختلفة عن حال السائد والمطروح من التجارب الغنائية ..فهو اختط لنفسه أسلوباً غنائية تفرد به في وقت كانت الساحة الغنائية ذات مقاييس ومعايير صعبة لأنها كانت تحتشد بأسماء كبيرة مثل عثمان حسين وأحمد المصطفى وعبدالكريم الكابلي ومحمد وردي ومحمد الأمين وشرحبيل أحمد .. هذه الأسماء وبكل ثقلها ومنتوجها الإبداعي الثر والفخم استطاع أبوعركي أن يقتلع له (موضع نغم) بينها .. وما كان ذلك ليتأتي لولا أنه كان موهوباً بدرجة عالية أهلته لمزاحمتهم بل ومنافستهم على (شباك النجومية) والتربع على القمة والتي ما زال يجلس عليها حتى الآن رغم معاناته في كل أزمنة الحكم التي حاولت أن تسكت صوته بالمضايقات والتغييب المقصود.
بتقديري أن الاستماع لأبوعركي البخيت ليس هو الاستماع لمجرَّد مطرب عادي أو مؤدي يهوم بك في دنيا من الخيالات والأوهام .. فهو في أصله الإبداعي متجاوز لغناء (التعسيلة والغمدة) لأن الغناء عنده قضية تتسع وتفتح أحضانها للإنسان .
(2)
ولعل مجمل أغنيات أبوعركي البخيت تبدو وكأنها سيرة ذاتية أو تلخيص لحياته بكل ما مرت به من عثرات منذ أن كان طفلاً في مدينة ود مدني حينما كان يذهب أقرانه ومن هم في عمره إلى المدرسة .. كان أبوعركي يرتدي (لبس خمسة) ويقضي سحابة يومه ما بين أصوات الحديد في المنطقة الصناعية .. وتلك الوضعية الشاذة من المؤكد بأنها لها تأثيرات نفسية عليه ولكنها لم تهزمه .. حيث كان يذهب للعمل صباحاً وفي المساء يذهب ليتلقي الدرس في فصول (محو الأمية) ورغم تلك الأجواء بدأ النبوغ الباكر لأبوعركي البخيت وتميز بين أقرانه بنادي الشعلة في ود مدني حيث كان يتقن أداء الأغاني الهندية والغربية التي كان يحفظها من الأفلام في السينما.
(3)
مثل دخول أبوعركي البخيت إلى معهد الموسيقى نقله كبرى في حياته الإبداعية حيث تم قبوله كحاله استثنائية، حيث كان يشترط وقتها الحصول على الشهادة الثانوية ولكن إدارة المعهد وقتها رأت إسقاط ذلك الشرط للمتقدمين الذين تتفوق موهبتهم وقدراتهم العالية .. وبحسب الأستاذ معاوية حسن يس تغيَّر مسار أبوعركي الفني تماماً بعد التحصيل العلمي فصارت موسيقاه مفعمة بالحوارات النغمية الكاملة وتسلك الطرق العلمية السليمة وإن كان تأثير الموهبة النادرة يضفي عليها المزيد من التألق والبريق والطعم المغاير والجديد، ونتجية لذلك التطور الأكاديمي في حياته الإبداعية بدأ يظهر أثر التعليم حيث قدَّم أغنيته الفارعة بخاف التي كتبها الشاعر حسن السر ، تلك الأغنية من جمالها وروعتها فازت بالجائزة الثانية لمهرجان الأغنية العربية بدمشق في مطلع سبعينيات القرن الماضي، ثم بعد بخاف جاءت أغنية (نوبية) للشاعر محمد الحسن عثمان دكتور وفي ذات المرحلة ظهرت أغنيته الكبيرة( حكاية عن حبيبتي) للشاعر الراحل سعد الدين إبراهيم.
(4)
في الأونة الأخيرة ظل الأستاذ أبوعركي البخيت يقدم بعض الأغنيات الجديدة المصورة رفقة المخرج الطيب صديق المقرب منه والذي يثق فيه بقدر كبير لا سيما أن المخرج الطيب تجمعه أواصر محبة شاهقة بـ(أبوعركي) .. لذلك درج على إظهار تلك الأغنيات الجديدة عبر رؤية الطيب صديق الإخراجية .. وتلك الأغنيات وجدت نقداً مكثفاً من حيث تركيبتها اللحنية أو الشعرية حيث يرى البعض أن هذه الأغاني هشة ولا تشبه التجربة المضيئة لـ(أبوعركي) .
(5)
ولكني أقول حينما يتقدم العمر يتبدل حال الجسم ، وذلك بسبب التغيُّرات التي تحدث على مستوى الخلايا والأعضاء.. وتؤدي هذه التغيَّرات إلى تغيُّرات مقابلة في الوظيفة والشكل وحتى المفاهيم والرؤية الكلية للحياة .. وكلما شاخت الخلايا، كلما تراجعت قدرتها على القيام بذات وظائفها القديمة . . وأبوعركي الذي قدم سلسلة من الروائع المشحونة بالعاطفة الدافقة مثل (بخاف .. واحشني .. حكاية عن حبيبتي .. نورا .. يا قلب) مروراً بتجربته العظيمة مع هاشم صديق في (اضحكي .. الوجع الخرافي .. أمونة) فكلها أغنيات أنتجت في فترة عمرية معينة ومن واقع منطق الحياة من المستحيل أن يستمر بذات النسق.
(6)
ولا شك في أن خبرة كل إنسان في أي مجال من المجالات تعد قيمة كبيرة في حد ذاتها. . وهذه القيمة تزداد وترتفع عندما تضاف إلى خبرات بشرية أخرى لتصبح كالسلسلة التي لا تنتهي، بل تتواصل بشكل مستمر. . ولا يمكن لفنان مثل أبوعركي البخيت أن يعيش في جزيرة منعزلة، حيث إنه فنان لابد أن يؤثر ويتأثر بالآخرين.
(7)
وفي أغنياته الأخيرة التي ينتقدها البعض خفية أو علانية هو نوع من التأكيد على أهمية استحضار تجارب الماضي .. فهو حينما يقدم أغنية جديدة ذات محتوى معين ( البلد الكنز أنموذجاً) فهو هنا يؤدي دور الاستشارة ولأنه يمتلك الخبرة كتراكم معرفي عملي مدعوماً بتميز تاريخي في الموسيقى السودانية .. فهو في هذا العمر يمتلك قدرات التعرف على المشكلات وكيفية معالجتها بأقصى سرعة وكيفية التعامل معها ، والتأثير على الجميع واحتواء المواقف ودراستها.. ويبقى من الظلم الكبير أن نحاكم أغنياته أبوعركي الأخيرة بذات الذهنية التي تنظر لـ(أبوعركي) نجم السبعينيات والثمانينات .. أو فلتقل نجومية ممتدة حتى الأن مع فوارق في الرؤية والخبرة التراكمية .. ولكنه في ذات الوقت نجح في الحفاظ على هذه الخبرات والمعارف، وزيادتها، حتي انتقالها بشكل سلس من جيل إلى آخر.