الحلنقي .. مفردة تحتشد بفضاءات واسعة وخيالات جامحة!!
كتب: سراج الدين مصطفى
(1)
حاولت أن أهاجر في ديوان الحلنقي كعصافيره التي هاجرت في موسم الشوق الحلو .. ومجرد المحاولة للدخول في عوالم الحلنقي يعني أنك تدخل الى دنيا جديدة غير التي عهدناها .. فهو شاعر قادر على أن يلامس تلك الأماكن البعيدة من القلب.. وكل مفردة عند الحلنقي تحتشد بفضاءات واسعة وخيالات جامحة لأنه يكتب دون تكلف وبتلقائيته المعهودة التي تجعلنا نشاركه ذات أحاسيسه الدافقة حينما يتحدث عن محبوبة ذات خصوصية، لذلك يعبر عن مكنوناتنا فهو حينما يقول في أغنيته الفارعة أعز الناس:
يا أعز الناس حبايبك نحنا
زيدنا قليل حنان ..
ده العمر زادت غلاوتو معاك
وصالحني الزمان
يا أحن الناس حنان..
(2)
تلك الكلمات يمكنها أن تغلفها على ورق من السولفان وتصالح بها نفسك ثم تعبئ بها أي إنسان فيستحيل الى هالة من الجمال والكمال الوجداني .. لذلك نجد أن قصائد الحلنقي تعبر عن ذات متصالحة مع الواقع والحياة والناس، لذلك انداحت بين كل الناس تنشر الفضيلة وتؤسس لمنهج حياتي خال من “صرة الوش” وتعرجات الزمان وما يمتلئ به من أحزان وصُعوبات تقابلنا يومياً في مختلف مساراتنا الحياتية .. ونظرة تأمل واحدة في ديوان الحلنقي “هجرة عصافير الخريف” يعني الخروج من باب كبير إلى عالم يتسع للفرح وسماء ينضح “بالطير الخداري”:
نحن ناس بنعيش حياتنا الغالية بالنية السليمة..
كل زول دايرين سعادتو ، تشهد الأيام عليمة..
يا حليل كسلا الوريفة الشاربة من الطيبة ديمة..
كم أسر فنان جمالاً خلي قلبو عليها غيمة..
(3)
كسلا التي دائماً ما تسكن كل قصائد الحلنقي هي اختزال جميل لكل السودان وهي ليست جغرافيا محدودة بالمكان والزمان والإنسان ولكنها مؤشر على أن الرجل “مغموس” بحب الوطن الصغير .. وهي دعوة أنيقة منه لأن نحب أوطاننا الصغيرة التي ينشأ منها الوطن الكبير .. لذلك حينما يغني عمر احساس لدارفور فهو يعبر عن مكنوناته وشوقه وحنينه الجارف إليها وكذلك محمود تاور حينما يغني لبارا وعبد القادر سالم سالم حينما يغني لكردفان وود القرشي حينما يكتب عن الأبيض وحدائق البان جديد وكل من يغني لمدينته كأنه يضع “طوبة ومونة محنة” لبناء وطن كبير، كذلك الوطن الذي أشار إليه محجوب شريف: وطن عاتي وطن خير ديمقراطي..
(4)
الحلنقي له مقدرة غريبة في أن يعيش أحاسيس غيره ويستلف ألسنتهم.. والمتمعن في ديوان هجرة عصافير الخريف يجده كتب في مواضيع شتى ومختلفة ولكنها رغم تباينها واختلاف مشاربها ومضاربها تلتقي في هارموني عجيب، لأن ثمة ما يجعل الاشتراك مفتوح ودون قيود أو شروط.. فهو حينما كتب أغنيته الفارعة “عيش معاي الحب” هل يعني ذلك بالضرورة أنه عاش ذات الموقف فصوّرها لنا قائلاً:
عيش معايا الحب، عيش معايا حناني..
خليني أنسى سنين، عشتهم وحداني..
أيه كان يضيرك تسأل يوم عليّ يا غالي..
وأنت وحدك عارف همي عارف حالي..
كيف أواصل صبري في الطريق الخالي.
كيف بدونك تصبح الليالي ليالي..
(5)
في لحظة ما من عمري، تأمّلت تلك الكلمات وأحسست أن الحلنقي كان يعيش معي تجربة مرت بحياتي.. وأظن أن كثيرين غيري عاشوا ذات الإحساس.. وتلك هي قيمة الشاعر الحقيقية يمنحك الدخول لعوالمه ويستلف لسانك ليكتب ويوصف ويعبر عن حالة وجدانية خاصة ولكنها تصبح في مُنتهى الشيوع والذيوع والاشتراكية.. وأظن أيضاً أنّ قُدرة الحلنقي على تصوير المشاعر هو إجابة على سؤال الذين يستفهمون عن سر بقاء وخلود وانتشار الحلنقي في وجدان الناس أجمعين.