بله علي عمر يكتب : فلاجيو… وسافرت عبر الزمان والجغرافيا
23ديسمبر 2022
الدوحة: بله علي عمر
كانت الساعة قد تجاوزت الثامنة مساء الجمعة الماضي، وبرغم أن الوقت كان باكراً، إلا أنني قررت أن أخلد للنوم، ذلك أنني شعرت ببعض الإرهاق جراء الزحف على قدمي لمسافات طويلة، إن المرؤ لا يشعر بالإرهاق مهما طالت المسافات عندما يكون في صحبة مجموعة من الناس، وتلك حالتي في دوحة هذه الأيام، ذلك أن الملمح العام للمدينة هو أن ترى الناس يمشون ويقفون الساعات سواء في سوق واقف أو في الكورنيش أو حدائق البدع وغيرها من أبرز مواقع المدينة، وكثيراً ما كنت أمشي وراء الناس ولا أدري (الناس دي ماشة وين).
قررت مواجهة حالة الرهق بالخلود الى النوم، غير ان ابن اخي طارق نور الدائم قال لي (سنخرج في جولة)، لم أتردّد فوافقته، شجعني أن له دابته الخاصّة, كما أن شغفي برؤية المزيد من أسباب الدهشة بالمدينة، كل ذلك دفعني الى مباركة فكرته والخروج معه و(النوم ملحوق).
لا أدري أي اتّجاه أخذنا، فحاسة الاتجاهات الأربعة ومترادفاتها سقطت لدي منذ “قلبوا لي وجهة القبلة”.. بعد مسير ثلث الساعة وصلنا الى موقع بدا فيه طارق يتحسّس موقعاً للسيارة.. اكثر من اربعين دقيقة مكثناها لإيجاد موطئ للسيارة وبعد جهد رأينا احدهم يغادر موقعه فعجّل طارق بأخذ الموقع قبل أن يسبقه أحدهم، علماً بأن مواقف السيارات هنا كثيرة وملتفة كالثعابين.. ترجلنا.. وتلفت لأعرف أبرز ملامح الموقع من بعيد بدا لي أحد ملاعب المونديال. سألت طارق فأجابني بأنه استاد خليفة، مُشيراً إلى إحدى البنايات الممتدة أفقياً قائلاً (وهذا مول فلاجيو)، المظهر العام من الخارج للمول يجسد العمارة التقليدية القطرية شأن كل مباني المدينة لا يتجاوز الطابقين.. حسناً هي فرصة للتفرج على الناس والبضائع.
كان المساء قد أرخى سدوله تماماً وقارب ميقات الوقت أن يشير الى التاسعة عندما دلفنا الى الداخل عبر البوابة الرئيسية للسوق الذي سمي مجازاً بالمول.. فجأة شعرت بدوار حاد وباختلال في ساعتي البيولوجية! متأكد إنني كنت في المساء الباكر قبل دقائق لم تتجاوز الاثنتين، فما للنهار هنا ما زال يحكم قبضته؟ كانت السماء صافية إلا من بعض السحب الركام.. شعرت بأنني ابتعد عن طارق وإنني أسافر بعيداً بعيداً عبر الزمان والجغرافيا.. أتراني في مدينة بأقاصي الشمال الأوروبي، حيث النهار على مدار الساعة لا شهر ولا شمس ساطعة؟ غريبة أن هذه المقاهي هي أقرب إلى تلك الموجودة في لاهاي مثل مقهى فلوريس بشارع (الاناستريت) أو مقهى (الاسبيرسو هاوس) بالعاصمة النرويجية كوبنهاجن.. ظللت في حالة وعي تؤكد انني سافرت بعيداً وفجأةً امسك طارق بيدي وقال لي (سرحت وين يا عم؟ هل أدهشك هذا السقف المستعار؟) وكأني جئت من سفر بعيد.. لكم أدهشتني هذه المدينة.. لقد جبت بلاداً وبلاداً.. طفت مدناً وشواطئ من أقاصي بحر الشمال الى حدود الدنيا شرقاً.. نعم جبت أوروبا ولامست حائط المنع الذي يحمي امستردام من تغول البحر الذي يعلوها ووقفت على (المدماك) الأعلى في سور الصين العظيم.. تُهت في شارع العرب ببانكوك وكسرت نظارتي عندما حاولت الخروج مصطدماً بزجاج أحد الأبواب على طريقة بلقيس التي كشفت عن ساقيها عندما حسبت المرمر لجة ماء فحسبت الزجاج عدما وقررت الخروج وذلك بأحد متاجر شارع كوندوتي بالعاصمة الإيطالية روما.
بعد زوال حالة الدهشة الناجمة عن الوقوف على حقيقة هذا السقف المستعار الذي جسد السماء والسحب، وجدت أن هذا المول المسمى بالفلاجيو ما هو سوق يضم مئات المحلات، صمم من الداخل بطريقة يحس المرؤ من خلاله بأنه في أحد أسواق المدن الأوروبية يؤكد ذلك الإحساس هذه المجموعات من المُتسوِّقين الغربيين الذين وفدوا لحضور المونديال، كما توجد أعداد من القطريين يُميِّزهم زيّهم اللافت، إضافةً الى أعداد كبيرة من منسوبي دول شرق آسيا من الباكستان والهند وما شابههما من الشعوب، وبين هؤلاء وأولئك، عددٌ محدودٌ من الأفارقة الذين يعمل غالبيتهم في مجال الأمن.
التجوال في فلاجيو أكد لي أن أصحاب وملاك هذه الأسواق قد أرادوا نقل أوروبا الى الدوحة سواء في ناحية خلق الأجواء المشابهة للمدن الأوروبية أو توفير أحدث مخرجات المصانع والتقنيات العالمية أو في مناهج العرض.. حتى العاملين والعاملات اشكالهم توحي بأنهم من أهل تلك النواحي لذلك تجد في هذه الأسواق المتحدثين بكل اللغات إنجليزي، فرنسي، إسباني، برتقالي واردي وغيرها. إحساس فاضل في داخلي يؤكد بأن الحكومة القطرية باركت إنشاء مثل هذه الأسواق حتى تجنب شبابها مخاطر التعرُّض للفتنة في أوروبا، فأتت بأوروبا الى الدوحة من خلال خلق الأجواء المُشابهة يُوازي ذلك إحساس خبيث بأن أهل البلاد أرادوا استعادة واسترداد ما صرفوه لهؤلاء المُقيمين من خلال ابتداع هكذا سُبل تشجِّع على التسوق ولا تترك بجيوبهم شيئاً.
عموماً، أعلن براءتي من هذا الإحساس، فهو من الشيطان ولا ينفع الشيطان حيث أتى.