(١)
في النصف الثاني من تسعينات القرن الماضي، وتحديداً عام ١٩٩٧ وقّعت حكومة السودان اتفاقية مع منشقين من الجيش الشعبي والحركة الشعبية ممثلين في حركة استقلال جنوب السودان برئاسة رياك مشار واللجنة المركزية لأبناء جبال النوبة بالجيش الشعبي برئاسة محمد هارون كافي الذي ضاع في زحام المدينة والنسيان، ولم يعد يتذكره أحد، ومعه القائد يونس دومي كالو عليه الرحمة، عاش زاهداً ومات صامتاً بأسراره وخفايا النضال في جبال النوبة.
أما ثالثهم إسماعيل سعد الدين، فقد تنحى عن السلطة، وبات يقف بين الجيش الشعبي والمؤتمر الوطني حتى سقط الأخير بأحكام الأقدار، وأصبح مثل الفيلسوف الفرنسي غوستاف لوبون صاحب كتاب “سيكولوجية الجماهير” بعد غرق زوجته في نهر الراين، أما رابع قادة اللجنة المركزية، السفير عبد الباقي حمدان كبير، فقد راح ضحية لحفر ودفن امرأة اسمها نجوى قدح الدم، كانت ولا تزال سفيرة للسودان في يوغندا فوق السفير الرسمي، وموصولة بالرئيس يوري موسفيني أكثر من أكثرية وزرائه.
هؤلاء الأربعة وقّعوا اتفاقية للسلام بحبال النوبة، وهي بداية سياسة تمزيق أحشاء الحركة الشعبية التي كانت تُقاتل بشراسة في الجنوب وجبال النوبة والنيل الأزرق، وفي ذلك الوقت لم تكن تسمَّ بالمنطقتين، وتم تكوين مجلس انتقالي للسلام لجمع شتات أبناء النوبة بصفة خاصة في الداخل، وبعض أبناء جنوب كردفان من غير النوبيين، وأسندت رئاسة المجلس لشخصية عسكرية متقاعدة الراحل العميد حمد عبد الكريم السيد، وهو شخصية عظيمة، لو لم يكن من جبال النوبة لذاع صيته في كل أرجاء البلاد، وفي سبيل الدعوة لجمع ابناء المنطقة وجبال النوبة (جبالين)!!
كيف جبالين؟ نعني جبال النوبة الاجتماعية التي تمتد بطول البلاد وعرضها من الجنينة في الغرب الأقصى حتى حلايب ومحمد قول ردهما للوطن القائد الغائب على وزن الإمام الغائب عند الشيعة، وحتى أحياء الخرطوم التي نشأت بسبب الحروب والصراعات، وهي تحمل أسماء ذات دلالات ترتبط بالقهر والظلم مثل “جبروناط و”ظلمونا” و”قبر الكلب” و”نيفاشا” و”كرور” و”ارفع صدرك” وغيرها من الأسماء. وتتمدّد جبال النوبة الاجتماعية في حي الموردة والعباسية وود نوباوي. أما جبال النوبة الجغرافية، فهي معلومة لأغلب الناس من “طوطاح” حتى “كرندي” ومن “المقينص” شرقاً حتى “لقاوة” غرباً، ومن “الحمادي” شمالا حتى “بحيرة الأبيض” جنوباً، وتمثل كتلة بشرية وأرثاً تاريخياً سيأتي يوم يقول كلمته في توحيد بلد تحمل في أحشائىها بذور التمزق بعد أن رفع فصل الجنوب قداسة ثوب الوحدة.
في ذلك اليوم تم تكليفي والأخ محمد عبد الله بقاري، وهو شخصية مرجعية في قضية جبال النوبة بدعوة بعض الرموز السياسية من أبناء المنطقة وخارجها ومن جبال النوبة الاجتماعية وأصدقاء المنطقة من الضباط الإداريين ممن عملوا فيها، وذلك لحضور الجلسة الافتتاحية لمجلس جبال النوبة الانتقالي. ووجهنا العميد حمد عبد الكريم بزيارة رجل قامة وسياسي كبير، إنه صلاح عبد العال مبروك، الأمين العام السابق لمجلس قيادة ثورة مايو الظافرة المنتصرة كما كانت تقول. دخلنا على الرجل بمكتبه، وكان يطالع الصحف الرياضية يشبهنا ونشبهه، سحنة سوداء وشعر قرقدي، وأنف فطساء. نظر إليناً عميقاً، وقال بصوت مرتفع أهلاً وسهلاً، نعم
شعرت بالخوف من الرجل الصارم، فقال له الأخ بقاري، جئناً إليك من العميد حمد عبد الكريم السيد، الأمين العام للمجلس الانتقالي للسلام بجبال النوبة، تقطّب وجهُ الرجل، واعتدل في جلسته قبل أن يضيف بقاري: يدعوك الإخوة لحضور الجلسة الافتتاحية للمجلس بقاعة الصداقة.
قال الرجل غاضباً (وأنا علاقتي بيه شنو انتم فاكرين أنا نوباوي ولا شنو)؟؟؟
قلت له: لا يا سعادتك ما قايلنك نوباوي، ولكن أنت شخصية كبيرة وقومية ومن الموردة، لذلك كان التقدير دعوتك لأن السلام شأن وطني يهم كل السودانيين. مع أن حديثي مجافٍ للحقيقة، وكنا حقاً نظن وبعض الظن إثم تقدير للناس أن صلاح عبد العال منا فيه كثير من ملامحنا، ويشبه أهلنا النوبة “الأجانق” ولكنه أنكرنا حطب، وهو في تلك الأيام يتولى رئاسة تنظيم اجتماعي اسمه أولاد أو أبناء أم درمان.
رجعنا وأسفنا في عيوننا وحذرني الاخ بقاري من رواية ما حدث للأخ اللواء إبراهيم نايل إيدام لانه كان سيخسر الرجل. المهم في القضية، أن أطياف التكوينات الاجتماعية المتمازجة في الوعاء القومي لم تجد حتى الآن حظها من الدراسة العميقة، ولم يستفد السودان كوطن من التمازج الذي خلفته المهدية وهي تجعل للتعايشة حياً في الخرطوم، يُعرَف بديم التعايشة، وجعلت للبرتي حياً في الخرطوم منطقة سوق نمرة ٢ هي ديم البرتي، وجعلت المهدية للبجة وجود في غرب كردفان وشمال كردفان منطقة كازقيل. وبفضل المهدية تجمّعت أغلب مكوّنات السودان الاجتماعية في الجزيرة ابا من المسيرية والرزيقات وعرب الحوطية ، وعرب الحسانية والكواهلة، الذين تفرّقت بهم أرض السودان، فكانت لهم ثلاث نظارات في بحر أبيض وام بادر بشمال كردفان، وفي تلودي بجنوب كردفان. ويعتبر حي الموردة والعباسية من أعرق أحياء الخرطوم العاصمة، ونهضت هذه الأحياء على والتصاهر والتعايش والثقافة، اندثرت لغات بعض الجماعات، وقدّمت أحياء مثل الموردة لاعبي كرة قدم مثل الراحل أمين زكي نجم النجوم، وأحمد بريش، وحامد بريمة، وكاوندا، وعبد النور، والمغربي وسكسك، وكندورة، وقدمت لدنيا الفن زيدان إبراهيم الذي جمّل مساءات الفن بأعذب الغناء الذي وحّد مشاعر الناس حينما جمعته بابن كسلا عمر الشاعر أغنية عمر السنين لحنها وكتب كلماتها شاعر من الشمال جعفر فضل المولى،
معاك قضيت عمر السنين
وافرش طريقك بالورود
وابني في قصور الأماني
ما حاسي بي زول في الوجود
عمري ما فكرت إنك
يوم حتخلف للوعود
لكني ما فاقد الأمل
يمكن ترجع تعود
وقدمت تمازجات الأعراق والقوميات نجوماً في المسرح والفن وكل ضروب الحياة إلا الساحة السياسية التي ظلت تفتقر لنموذج الراحل كابتن أمين زكي، وأشباه الراحل محمدية وأمثال حامد بريمة، وعبد العزيز بركة ساكن.
والنخب الحاكمة ظلّت تنظر دائماً لنفسها ولا تتأمل في العيش الملا القندول على قول المحبوب عبد السلام في كتابه الشهير عن الحركة الإسلامية “دائرة الضوء وخيوط الظلام” وقد استهل كتابه الأشهر ببيت من الشعر
مديت علي الأمل أشواق كثيرة وقصرت
لا بتعرف الزول البجيك ولا البجيك بيعرفك
وبلادنا ابتلاها الله بساسة لا يعرفون قدرها، ولو أبصر قادتها وتدبروا وتأملوا فيما حاق بأطرافها من ظلامات عبر السنين لما ظلت قضية جبال النوبة منسية حتى الآن، ولم يأبه بها أحد، وحتى في جهود التسوية وإشراك حاملي السلاح في الحكومة الانتقالية هرعت جماعات المدنيين والعسكريين إلى أديس أبابا وانجمينا وباريس، وتعدد الرسل سرّاً وعلنًا من أجل خطب ود الحركات الاخرى.
من يفاوض من ؟ في ملف جبال النوبة تلتبس الأشياء وبعض المدارس السياسية تميل لتقزيم القضية باعتبارها شاناً محلياً لا علاقة له بقضايا المركز، وبالتالي يجب التفاوض حول قضية جبال النوبة مع أبناء جبال النوبة من يحملون السلاح يفاوضون من يساندون الحكومة.
وفي عام ١٩٩٨ جرت جولة مفاوضات في نيروبي برئاسة مولانا أحمد إبراهيم الطاهر من جهة الحكومة، والدكتور جاستن ياك من قبل الحركة الشعبية، وفي تلك الجولة قررت الحكومة إشراك قيادات المنطقتين في التفاوض، وحدثت طرائف في تلك الجولة، حيث مثّل وفد الحكومة من النيل الأزرق الأخ السماني عقار، شقيق مالك عقار، وكمندان جودة الذي انضم فيما بعد للحركة الشعبية، وعند وصول الوفد لنيروبي كان أغلب أعضاء الوفد من النيل الأزرق يرتدون ملابس خفيفة جلابيب وعمماً وشالات، بما يُعرف بالزي القومي، وكانت نيروبي في تلك الأيام شديدة البرودة تصل درجة الحرارة لأقل من ١٠درجات، وجرت المفاوضات في منطقة بعيدة من نيروبي عبارة عن مركز لتدريب الصيارفة بضاحية ناكوري.
ارتكب الإداريون من الوفد الحكومي أخطاء فادحة وساذجة تنم عن عدم مسؤولية وازدراء بإنسان المنطقتين، تم الحجز للوفد الخرطومي في فندق هلتون نيروبي والموظفين من دونهم في فندق (ترمنال هوتيل)، بينما تم تخصيص استراحة خاصة بـ”سودانير” كانت تستخدم لاستضافة الموظفين، كل ذلك عندما كانت لـ”سودانير” مكاتب في عدد من البلدان.
وفي اليوم الثاني لبدء التفاوض التقى مالك عقار بشقيقه ووفد النيل الأزرق وسألهم عن إقامتهم فقالوا له باستراحة “سودانير” فقال لهم “من هنا تبدأ المشكلة لماذا يقطن الجلابة الفنادق خمسة نجوم وأنتم تقطنون في استراحة ؟ هل لأنكم لا تستحقون السكن مع هؤلاء الأسياد”، غضب السماني عقار وغضب كمندان جودة ، وقام عقار بشراء بدل أفرنجية جديدة للوفد من النيل الأزرق وبعض الأغطية الواقية من البرد، وأضاف إليها برنيطة مثل برنيطة سلفاكير ميارديت، وبشأن البرنيطة، وهي لباس الإفرنج والكفار.
ويقول محيي الدين بن عربي كما ورد في كتاب خير الدين التونسي “غرائب الأسفار وعجائب الأمصار” إن البرنيطة إذا لبسها المسلم تشبهاً بالنصارى فهذا محرم، اما إذا لبسها اتقاء الحر والبرد يجوز ذلك.
وعند عودة وفد النيل الأزرق في الصباح شعر ماجد يوسف الدبلوماسي المثقف بأن وفد الحكومة من النيل الأزرق قد سرت وسطه روح التمرد، أما وفد الحكومة من جبال النوبة فقد طلب من الراحل يوسف كوه مكي عقد لقاء خاص به، لم يمانع كوه، ولكنه طلب من العميد حمد عبد الكريم السيد أخذ الإذن من رئيس الوفد الحكومي، لكن يوسف كوه قالها مباشرة (خذو موافقة أسيادكم أولاً)، وأضاف: لدي شرط وحيد أن لا يحضر أحد من (الجلابة) لقاءنا ولا جنوبي من الحركة الشعبية، اتفقنا، وفي يوم الجمعة بعد الصلاة، جلسنا في بيت الراحل يوسف كوة بنيروبي وزوجته الفاضلة فاطمة، تعد الطعام، وكنت أصغر الوفد سناً، وتم تكليفي بإحضار الطعام رفعاً للكلفة، وقال يوسف كوة بعد أن أتخمنا باللحوم والسمك والكسرة ملاح الويكة، انتم تريدون مني إيقاف الحرب، لأن الأرض خربت والشباب مات، والبعض نزح والبنية التحتية تحطمت، كل ذلك صحيح، ولكن أنا يوسف كوه لدي مطالب أريد مبلغ مليار دولار لتعمير جبال النوبة، هل يستطيع أحدكم التصديق بهذا المبلغ الآن، وأنا أريد أن أصبح وزير داخلية، هل يستطيع منكم من يعينني في هذا المنصب؟ إذا كنتم لا تملكون قراراً في الدولة دعوني أفاوض من يملك القرار وبيده السلطة.
وأضاف يوسف كوه: التفاوض دوماً بين من يملك السلطة والقرار، ومن يسعى لنيل حقوقه .
انفضت الجلسة ولا تزال القضية باقية، والسؤال الذي طرحناه في هذه الفقرة مَن يفاوض مَن، وهل قوى الحرية والتغيير والمجلس العسكري يملكان الإرادة التي تجعل السلام ممكناً، وما هي العقبات الكبيرة التي تقف في طريق الاتفاق النهائي؟؟
من قصص وحكايات رجل الإدارة الاهلية الذي أكرمته الإنقاذ واعترفت بفضله، الأمير كافي طيارة البدين أمير منطقة (شات) ،وهي تضم كل الريف الجنوبي المعروف بالبرام من شات الصفيا إلى شات الدمام، منحه الرئيس البشير رتبة عقيد في الجيش، لأنه مقاتل شرس، ويملك قوة عسكرية حقيقية على الأرض.
الأمير كافي طيارة بعد التوقيع على اتفاق سويسرا الذي أنهى النزاع المسلح والمواجهات العسكرية، كان من أكثر القادة توجساً من غدر الحركة الشعبية وخوفه من خرق اتفاق السلام وكان د. غازي صلاح الدين مستشار الرئيس لشؤون السلام حريصاً على اللقاء بالمواطنين، وشرح ما يجري من تفاوض. وفي أحد اللقاءات، تحدث الأمير كافي طيارة بطريقته البسيطة موجهاً حديثه لدكتور غازي (يا دكتور الحرب دا كعب انت دكتور قريت كتيير من طفل نركوك حتى بقيت كبير مشيت لندن وجيت زول عيان دار يموت انت تعمل عملية ببقى نصيح لمن حرب يقوم زول امي ساكت ما قرا أي شي بشيل بندقية بكتل انت باله دي ما خساره).
بهذه اللغة البسيطة أبلغ كافي طياره رسالته والحرب التي تدور في جبال النوبة، إذا لم تتوقف اليوم، ويُستجاب لمطالب حاملي السلاح بما في ذلك الحكم الذاتي ومنح الإقليم ونعني إقليم جبال النوبة، وليس إقليم كردفان قدراً من الاستقلالية لتنمية موارده وقيادة نفسه من غير هيمنة مركزية لن تستقر البلاد، والتفاوض مع الحلو ليس مثل التفاوض مع مالك عقار أو مني أركو مناوي، القضية هنا أكثر تعقيداً والخبرة السياسية والوعي بالحقوق المدنية والسياسية في جبال النوبة متجاوزة لبقية الأقاليم.
مفاوضات قوى الحرية والتغير الداخلية التي جرت خارجياً في أديس ابابا إذا لم تشمل الحركة الشعبية برئاسة الحلو وحركة تحرير السودان برئاسة عبد الواحد محمد نور لا قيمة لها، لأنها لن توقف الحرب وتنهي النزاع، وقضية جبال النوبة عميقة جداً وحلها في مخاطبة جذور أسباب النزاع، وهي قضية حقوق ومظالم لا تسقط بسقوط الحكومات، ولا يمكن تجاهلها هكذا لمجرد أن الحركة الشعبية لم توقع على الكتاب المقدس أو إنجيل قوى الحرية والتغيير المسمى بميثاق الحرية والتغيير.
وصول الحلو لأديس خطوه جيدة، ولكن المهم أن يستوعب النخب عمق القضية ومطالب أهل الإقليم