عندما تَرتد آمالك وعَشمك في زُول كَانَ مِلء العَشم والاختيار لتنتهي مَعَ المُتنبي حَسرةً قَاسيةً وانتظاراً آخر كسيف وكثيف:
يَا مَنْ يَعِزّ عَلَيْنَا أنْ نُفَارِقَهُمْ وِجدانُنا كُلَّ شيءٍ بَعدَكمْ عَدَمُ
مَا كَانَ أخلَقَنَا مِنكُمْ بتَكرِمَةٍ لَوْ أنّ أمْـــــــرَكُمُ مِن أمـــــــــــرِنَا أمَـــمُ
إنْ كانَ سَرّكُمُ ما قالَ حاسِدُنَا فَمَا لجُرْحٍ إذا أرْضـــــــــــاكُمُ ألَمُ
وَبَيْنَنَا لَوْ رَعَيْتُمْ ذاكَ مَعرِفَةٌ إنّ المَعارِفَ في أهْلِ النُّهَى ذِمَمُ
كم تَطْلُبُونَ لَنَا عَيْباً فيُعجِزُكمْ وَيَكْرَهُ الله ما تَأتُونَ وَالكَـــــــــرَمُ
المُتنبي لم يكن يلقي بالاً ولا (انتباهةً) لهمس الأغيار في بلاط سيف الدولة الذي سُرعان ما استحال إلى (صيحة) ونفيرٍ، فإحساس المُثقف المُبدع ينصرف إلى تجويد منتوجه وتوسيع رؤيته والاشتغال بِمَا يُليق وأهل المَراتب العُليا في تَسفيهٍ مُغيظٍ ومُتعمِّدٍ لِمَا دُونه من سفاسف وسفوح، ولو تنبّه واجتهد في تثبيت نُفُوذه لخسرنا مقام المُتنبي بين وهج الجبال والذي بقي مُلهماً للوجدان العربي ولعصورٍ طويلةٍ.
نحن نُدين لتلك الذكريات الأليمة.. مُدينون للألم والخوف والحسرة والدموع الثخينة فكل ما لا يقتلك يقويك.. فقط تَعَلّم من تَجربتك مع (رفيق القسا) أن تحب هَونَاً مَا وتَكره هَونَاً مَا، ولك أن تَصغى لـ(إسماعيل حسن) في إلياذته المجيدة:
(يَاما غَنّيت وكان كُلّو عَشانك
أنا استاهل.. وضعتك في مكاناً ما مكانك).
تغرز حروف “إسماعين” الدّامية نصلها المصقول في وعي الاختيار بلا إنكار أو تَمييع أو مُعاوضة وبثباتٍ فيه الكثير من طعم التعافي الذي يبدأ بالمَعرفة ثُمّ الاعتراف الجَهير.. وقريب من ذلك بكائية سبدرات المُستوحدة (رجعنالك).
(رجعنالـك وجينا غفرنا أنك بالوشاية فـصدت كبـد الفرحة فـينا..
رجعنالك وعينينا الـبكت فـجعت رموشه دموع ثخينا..
وبفرح عودتنا رفت زغردت كلـمات حنينة)..
والذي أشرع التساؤل المشروع حول جدوى عملية الجرد لما سبق، والتّلاوم عَلَى مَا فَاتَ، وقرار الرجوع من بعد (الفض) مُتّخذ ونافذ..
ونصيحة غير بعيدةٍ فتش في الرغائب الحَقيقيّة لمن هُم حولك قبل أن تطلبهم المُبادلة والاستجابة لما تُريد.
أراد (عم عثمان) ابتعاث ابنه (النذير) إلى منزل صديقه (فضل المرجي) في (الحلة الورانية) ليتناول له كيس تمباك.. لكن النذير تمنّع بحجّة أنّه لا يعرف بيت عمك فضل المرجي فدار هذا الحوار:
– (بيتهم شمال بيت ناس خالتك محاسن).
– (محاسن منو!؟).
– محاسن زوجة أبشر ضابط الصحة).
– (ما بعرفو).
– (طيِّب شفت الزاوية الجنب ناس الدخري!؟).
-(ناس الدخري بعرف بيتهم القديم بس).
-(أقول ليك حاجة شفت شارع الردمية جنوب المدرسة بتاعت أستاذة عَشّة!؟).
وهُنَا تماماً انهارت المُفَاوَضَات ليهتف النذير ضَاجّاً:
-(إنت يا يابا إلا أقول ليك أبيت).