إبراهيم أحمد الحسن يكتب: كثيراً ما تتحرَّك عنده جينات اقتناء الدرر والنوادر.. معتصم الجعيلي.. سوداني من الأبيض
(1)
أنا سوداني.. من الأبيض ثم طفق يعدد في أصدقائه باسمائهم من جهات السودان كافة قبل أن ينتهي إلى حقيقة مؤداها أن: أغرب حاجة أنو الأصدقاء ديل بينهم عامل مشترك واحد (إنهم سودانيين).. معتصم الجعيلي لم تجذبه ألوان كرات (لعبة البلي) بألوان الطاؤوس الزاهية فحسب، فكان له مع كل كرة ولون قصة حب وحكاية مناجاة وحوار، ولكن كان لاعباً ماهراً ومجيداً له معها وفي ساحات لعبها صولات وجولات يذكرها أبناء جيله، وكثيراً ما تتحرَّك جينات اقتناء الدرر والنوادر عنده فيصطنع قوانين جديدة للعب ما عرفتها اللعبة ولا اعتاد عليها أقرانه، فيتخذ المغالطة سبيلاً لإنفاذ أفكاره فيعتاد (الخرخرة) ويتخذها سبباً لوضع قانون جديد للعبة .
(2)
وجدان الفنان معتصم الجعيلي دوزنته أنغام وضبطت نوتة موسيقاه إيقاعات هي تجري في مدينته الأبيض مجرى الدم في عروقها، وتتخلل مسارب روحه .. فأصوات الطرب تأتي من ثنايا (الهسيس) و(جر النم) و(كرير الدوبيت) وإيقاع (المردوم) و(الكمبلا) ورزانة (التمتم) و(دقلاش الطار) و(أزيز النوبة) و(صلصة الرق) و(ضجيج الجاز) واطمئنان (الريقي) وأصوات حالمة تعزف لفيروز، تأتي الإيقاعات والنغمات من كل فج عميق في مدينته الأبيض، من حفلات الأفراح ومن دكاكين السوق الكبير، (سوق أبوجهل)، وسوق (ودعكيفة) و(سوق أبوشرا) ومن المقاهي والسينما ومن دار فرقة فنون كردفان.
(3)
تكتمل النغمات عند الجعيلي من معزوفات الحزن، نشيج البكاء والعويل النائح في بيوت رحل عنها أهليها أبدياً أو إلى حين . هكذا نشأ معتصم الجعيلي مترعاً بالجمال، نقياً، صادقاً وفياً لفنه، لمكامن الإبداع فيه، ولأصدقائه محباً لبلده ولأهله وزملائه وللأبيض لا يعيبه إلا كونه سودانياً حتى النخاع (خرخار) في البلي ويعزم على (المافيش).
(4)
كانت فكرة الإعلان الشهير لشركة (موبيتل) وقتها بسيطة وجميلة ومعبِّرة، كرة تطير في الجو تجوب أقاليم السودان كافة تمر بأهم المعالم ثم تعود لتستقر في الخرطوم بعد أن تنسرب من تحت جسر النيل الأبيض تأخذ طريقها عكس تيار النيل الأزرق لتصادف في طريقها شاب يتزحلج فوق المياه، تلفت انتباهه الكرة الطائرة، يلتفت إليها قبل أن يواصل تزحلقه طافياً فوق سطح الماء يلاحق القارب الذي يطير على تماس مياه الأزرق الدفاق قبل أن تستقر مستديرة تمثل الحرف الإنجليزي (O) في أعلى المبنى الأنيق، والجعيلي كان يحرصاً على حضور تصوير لقطات الإعلان بنفسه مسافراً إلى كردفان الكبرى والنيل الأزرق، دارفور، الجنوب، البحر الأحمر الجزيرة، الشمالية والخرطوم. كان يعرف تراب السودان ذرة ذرة ويكاد يعد نجومه الزواهر التي ترصع سمائه نجمة نجمة وهو مستلقي حين سفر في خلائه.
(5)
(لو كان يدري ما المحاورة اشتكى / ولكان لو عَلِمَ الكلام مُكَلِّمي) ذاك هو عنترة ابن شداد يمتدح فرسه ويفخر به، أما معتصم الجعيلي فقد جعل (بلطية بنت النيل) تنطق، تتكلم، تضحك، تبكي، تقفز، ترقص وتغني، جعل معتصم من السمكة البلطية مسلسلاً كرتونياً واستعان بمؤثرات بصرية وصوتية ما كان يعرفها أحداً غيره ذياك الزمان، ذهب بالسمكة البلطية إلى مهرجان الإذاعة والتلفزيون في تونس في العام 2004 ثم أتى يحملها الجائزة الكبرى (سعفة ذهبية)، بكل تواضع تأبط معتصم الجائزة العالمية ورصع بها خارطة الإنجاز بما يمكن أن ترفعه إلى مصاف العظماء والعلماء في السودان، ولم يحدث سوى احتفال خجول وتكريم مُقل.. وما كان لمعتصم وقت يضيعه وما أشتكى لكنه حمل عصا ترحاله يبحث عن إبداع جديد في مكانٍ جديد، وترك حطب الغيرة يشتعل من ورائه ينظر إلى أعمدة دخانه يتعالى ثم يسقط في الحضيض.
(6)
ركب معتصم الجعيلي البحر وسبر أغواره، تاه في وسط المحيط الأطلسي ناحية جبل طارق كان فيها البحر أمامه والمجهول من خلفه، تاه بين ميناء الخزيرات في أسبانيا وطنجة في المغرب وظل هائماً في المحيط إلى أن هيأ الله له الدخول بعد ثلاثة أيام حسوماً.. وعزف معتصم على الجيتار أجمل نغمات ملك الجاز شرحبيل أحمد وعزف أجمل ألحان فرقة جاكسون فايف العالمية المجموعة التي انحدر منها الأسطورة مايكل جاكسون.. وقطع رمال القوز على ظهر لوري بين النهود وبلدة العيارة نواحي كردفان، حمل الصاجة، الحديدة التي يضعونها تحت العجل الخلفى للوري فتعينه على الخروج من براثن وحل الرمال، وعندما يخرج اللوري من الكثبان الرملية يجري الجميع خلفه يتسلقونه إلا معتصم فإنه يبقى في مكانه واقفاً، منتشياً راخياً حواسه كلها يستمع ويستمتع بنغمات تعزفها ماكينة اللوري علواً وهبوطاً كانت أوتارها دواسة الجاز يتلاعب بها سائق ماهر، ويكسر حدتها بأنغامٍ من بوري تحاكي أغنية تقول كلماتها (نركب الكركابة وندلى في أم روابة).
(7)
طرب معتصم الجعيلي لنغمات موسيقى الجاز من جيتاره الأثير ومن دواسة الجاز عند السائق القدير والبوري الذي عادت تعزف صوته الموسيقى بعد أن كان هو يعزف صوت الموسيقى كما نشاهد ونسمع الآن، كل ذلك جعل معتصم الجعيلي يأتي بقناة تلفزيونية أسماها (هارموني) وكانت تُعني بالانسجام والتناغم، كانت تبرز التنوع في السودان في اسمى معانيه كانت برامجها وأغنيات بثها وأخبارها مميزة وفريدة وخارج صندوق الاعتياد، يجد فيها الشرق ذاته والغرب يغوص عميقاً في طبيعته ويستكشف ثراءها المخبؤ، والجنوب يرسل خضرته والنيل وجماله الآسر للشمال والشمال ينظر ماضيه التليد ويشيد تراثه على هارموني، وفي الوسط والسودان كله كانت ترينا هارموني مستقبله المشرق، عزة نفسه وصعب مراسه.
(8)
كانت هارموني واضحة حد السفور وكانت سافرة حد خفر سودانية بالثوب السوداني الجميل. وقناة بهذا الجمال كان من الطبيعي أن تحارب بلا هوادة وكما يقولون وقف معتصم الجعيلي وحده عند ناصية حلمه وقاتل، ولكن ولأنهم عصابة اجتمع فيها الغوغاء من كل سربٍ ونوع، اجتمع عاطلي الموهبة والعقول المتحجرة وعديمو الخيال والمتردية والمتكلسة والنطيحة ومحطات التقليد وهلمجرا، ولأنهم عصابة وهو فرد كان لابد للشر أن يسود ويطغي فالكثرة تغلب الشجاعة، عندها انصرف عنهم معتصم إلى مجالاتٍ أخر يبدع فيها ويبتكر فأوجد قناة سنابل للأطفال تمرح وحدها في دومين خارج مدارات الأقمار الصناعية، وخارج السودان ذاته تعمل لأطفال السودان الذين فرضت عليهم الظروف العيش خارجه، تشرح لهم ماضيه الجميل وتربطه بمستقبل مشرق، تغنى لهم (في القولد التقيت بالصديـق/ أنعم به من فاضل ، صديقي) وتحجيهم بـ (فاطمة السمحة) وتنظر معهم عبر نافذة الميتافيرس إلى سودان الغد الجميل.. أما هارموني فقد حفظها الجعيلي في حرزٍ أمين. هيأ لها دثار الدفء في بياتها الشتوي الطويل، تحلم بفجرٍ جديد يقدل فيه معتصم الجعيلي وينتصر الخير.