12ديسمبر 2022م
كانت شاتئة..
تلكم الليلة – من ذات الليالي – بمدينة القاهرة… مثل ليالينا هذه..
وبوسط البلد مقهى اسمه ليالينا..
ويبث ألحاناً سودانية… وصاحبه يعشق السودان… ويجتمع عنده السودانيون..
ثم كانت ليلة يحلو فيها الشواء… مع الشتاء..
كما تحلو فيها المُؤانسة… والمُسامرة… والمُشافهة..
وكان ذلك بساحة أحد المطاعم – ذات الشواء – في منطقة السيدة زينب..
وبمحض الصدفة جلس كلٌّ منا قبالة الآخر..
أبناء شطر شمال الوادي على ناحية… وأبناء الجنوبي منه في مواجهتهم..
وشجون الحديث قادتنا إلى معاتبات..
فهم يعتبون علينا بعض نظرة عدوانية تجاههم دونما مُبرّر..
ونحن نبرِّرها بنظرة فوقية من تلقائهم تجاهنا..
أو – بالأصح – نفرٌ منا كان يفعل ذلك… أما أنا فكانت لي نظرتي المختلفة..
فلا أنا أراهم استعلائيين تجاهنا..
ولا أرانا كذلك محقين إزاء النظرة العدوانية هذه تجاههم..
وشرحت نظرتي هذه ببرود… كبرودة تلك الأمسية من ذاك الشتاء..
وذلك فيما يلي المنطوق..
أما من ناحية المضمون فكان الشرح في حرارة الشواء..
فمصر لم يحدث أن استعمرت بلادنا بالأصالة أبداً… وإنما بالوكالة..
وأعني في العصر الحديث..
أما قديماً ففراعينهم احتلوا بلادنا أحياناً… وفراعيننا احتلوها حيناً..
احتلوها في عهد بعنخي… ومن بعده ابنه تهارقا..
وأعني بالأصالة من تلقاء نفسها… من تلقاء قوتها… من تلقاء إرادتها..
ولكن بالوكالة عن آخرين حدث هذا..
بالوكالة عنهم… أو التضامن معهم… كما في حقبة التركية الأولى..
فإسماعيل باشا الذي غزا بلادنا ليس مصرياً..
فهو حفيد محمد علي باشا والي مصر بالنيابة عن الباب العالي في الأستانة..
وهو من أصولٍ ألبانية..
بمعنى أن مصر كانت واقعة – هي نفسها – تحت حكم العثمانيين..
وكذلك الأمر في عهد الإنجليز..
فبريطانيا استعمرت مصر؛ وهي – ومصر هذه – استعمرتا السودان..
هذه هي الحقائق التاريخية المُجرّدة..
وليس فيها ما يستدعي استعلاءً مصرياً؛ ولا شعوراً سودانياً بالدونية..
وحقائق الماضي هذه نستدعيها لمصلحة الحاضر..
لمصلحة أن تكون لدينا مصالح مشتركة؛ حتى في حلايب مصدر النزاع..
أن تكون منطقة تكامل بين البلدين..
كما أن هنالك حقيقة – سالبة – أخرى علينا أن نعترف بها..
وأولى مراحل التعافي الاعتراف..
وهي الحساسية المفرطة حيال أشياء لا تستحق ولو ذرة منها..
واستشهد على ذلك بحادثةٍ ما..
فأثناء رحلتنا إلى الكويت – قبل أعوام – دُعينا إلى وليمة بحرية..
وكان هنالك وفدنا؛ ووفود دول عربية أخرى..
وكان المطعم البحري يطل على البحر؛ وطعامه كله من البحر..
فتم إجلاسنا إلى طاولة بجوار الحاجز الزجاجي..
ومن وراء الحاجز هذا – وتحته – مياه البحر؛ فتذمر نفرٌ منا..
وقالوا لقد تخيروا لنا موقعاً أخيراً..
فقلت لهم بل هو موقعٌ أول….. بدليل مجاورته لمنظر البحر..
فلم يقتنعوا؛ وعدوا ذلك ضرباً من الحقارة..
وهم في فورة استيائهم ذاك أقبل نحونا أحد المضيفين من أهل الكويت..
وقال هاشاً: لقد رأينا أن نبركم بهذا الموقع المتميز..
ثم سأل إن كان ينقصنا شيء… أو نحتاج إلى شيء… أو نشتكي من شيء..
فلم يصدر عن أحدنا شيء..
وكذلك الآن ما من داعٍ لأن يصدر من أحدنا شيء ينم عن امتعاض..
سواء من شمال الوادي.. أو من جنوبه..
سيما مننا نحن؛ فمصر هي قبلتنا – ووجهتنا – الأولى من بين دول العالم..
ثم شعبها هو الأكثر مصاهرةً لنا من بين العالمين..
هذا فضلاً عن علائق النيل… والتاريخ… والجذور… والحضارة..
والذي يجمع بيننا أكثر مما يفرق..
هو شيءٌ مثل الذي جمع بين نفرٍ منا – ونفرٍ منهم – في تلكم الليلة..
ليلة الشتاء..
والشواء!.