اجتماعات أديس وزجاجة السمن..
كل يومٍ يمُر تزداد الأزمة السياسية تعقيداً، ولا حل يلوحُ في الأفق، وبات من الصعب جداً البحث عن حلول موضوعية لواقعٍ هو الأبعد الآن عن المنطق والمعقول، فالأحزاب والكيانات السياسية والحركات وكلها منضوية تحت راية الحرية والتغيير، احتاجت لهذا الوقت الطويل والسفر للخارج وأموال طائلة صُرفت على إقامتها في فنادق أديس أبابا الفاخرة، بجانب مصاريف أخرى وتذاكر سفر ونثريات وترحيل داخلي، من أجل الاتفاق فقط على كيفية اقتسام السلطة وتوزيع كراسي الحكم! يجتمعون لتوزيع نصيب كل منهم، بينما الوطن يئن من جراحه، والمواطنون البسطاء غارقون في أزمة الكهرباء والماء والخبز والزيت وغلاء أسعار الدواء والطماطم والخضروات واللحوم ورسوم الدراسة، ومُستلزمات المدارس للأطفال، ومحنة القلوب المُنفطِرة والأعين الدامعة كل يوم.
سواءٌ اتّفَقوا في العاصمة الأثيوبية أم لا، أو غنِموا مَغانمهم السُّلطوية أو عاد كلٌ منهم من حيث جاء بخفي حُنين، فإن قوى إعلان الحرية والتغيير والحركات المتمرّدة التي لا تزال تحمل السلاح، من خلال هذه الاجتماعات الغريبة الباهتة اللون المُرّة المذاق والطعم، قدّموا أسوأ رسالة لعامة الشعب وللثكالى الحائرات، واليتامى الحزانى والواقفين على جراحهم النازفة، فهم أحرص على مناصبهم القادمة أكثر من حِرصهم على كل الشعارات التي يرفعونها، هدفهم السلطة وبريقها المِخداع وليس خدمة المواطنين، والسعي من أجل رفاهيّتهم وحقوقهم، مُبتغاهم الوحيد هو أن يصلوا إلى لذيذ الرغبات المتوحّشة لإرضاء الذات وشهوة الحكم، وليس التفاني من أجل وطنٍ تمرّغ في ترابِ اليأس حتى تراءى يافوخه ككومة العَتْمور المنسي في الفلاة. جعلوا شعبهم يغرَق في ذهولٍ تضْمَحِلُّ معه الأمنيات، بينما تلتَمِع في أعينهم الطامعة نيران الشَّرَه الجامِح.
كل القضايا التي تهُمّ المواطنين صارت موطئاً تحت نِعالِهم اللامعة وهم يدلفون إلى ردهات الفندق وقاعة الاجتماعات، فقط تناقَشوا في المُسمّيات والشعارات والعبارات اللَّزِجة التي تتمحور في إطاراتهم، وتقود دلالاتها إلى همومهم الذاتية فقط. فالأولويات المختلفة هل لتكوين الحكومة أولاً أم السلام، تكوين الحكومة أولاً يضمن للمُستوْزِرين الجدُد وصولاً سريعاً للسلطة وبأي ثمن، تقديم ملف السلام يجعل للحركات المسلحة نصيباً أكبر في كيكة السلطة، كل هذه المُحاوَرات والمُساوَمات والمُداوَرات من أجل السلطة لا غير، فعندما يبرع أهل السياسة فإنهم يبرعون في تلوين الأطروحات وتنميق الكلمات وتزيين العبارات لتؤدي في النهاية دوراً مُحدّداً هو تقصير الطريق وتعبيده نحو السلطة.
ما يُسمَع من أحاديث وتصريحات الطرفين في أديس أبابا يُلخّص الأزمة السودانية في أبرز تجلّياتها وأكثرها وضوحاً، فالجدل السياسي بين الطرفين في بُرجِه السياسي العاجي، لن يُجاوب على الأسئلة المِلحاحةِ والمُلحَّة لدى المواطنين البسطاء، فالمواطن يُريد حرية لا تغمض عينها عن حقوقه الأخرى في العيش الكريم وإزالة المسغبة ومُحاربة الفساد وتحقيق العدالة وتخفيف شظف العيش، وقدح شرارة الأمل ووضع حلولٍ جذريةٍ لانتعاش الاقتصاد، وإشاعة السلام وخفض التوتُّرات التي صنعها حمل السلاح وإنهاء مواصلة الاقتتال.
تشبه حالة الحوار الدائر في أديس أبابا بين أطرافٍ هي مُكوِّنٌ لتحالُف سياسي واحد لم تصل للسلطة بعد، وليس بين يديها اتفاق كامل مُوقّع مع المجلس العسكري، تقومُ بتوزيعِ المناصب بينها ويجتهد قادتُها في وضع مؤسسات الحكم الانتقالية والمؤسسات النظامية وكيفية هيكلتها. تشبه حالتهم حالة الرجل الفقير الذي ذهب ليبيع زجاجةَ سمنٍ في السوق جلس أمامها وبدأ يحلم في يقظته أنه إذا باع الزجاجة سيشتري بثمنها شاةً وستلِد الشاة شِياهاً، وتكبر ثم يبيعها ليشتري غيرها ومعها بقرة وتلد البقرة ويكبر القطيع ليبيع منه فيكثر ماله ثم يتزوّج فتاة حسناء وتنجب له طفلاً جميلاً ويكبر الطفل قليلاً فيُزعِجه الطفلُ في قيلولته فيتناول عُكّازته ليضربه مؤدِّباً … وهنا ضرب بعصاه زجاجة السمنِ فسال السمنُ على الأرض وضاعَ الحلمُ الجميل…!