10 ديسمبر2022م
واسمها الطاحونة..
دراما مصرية قديمة تدور أحداثها في بلدة ريفية؛ وشاهدت جانباً منها ليلة أمس..
وهي طاحونة ترمز لمتناقضات قيمية في هذه الحياة..
الحق والباطل… الخير والشر… الجمال والقبح… الوفاء والخيانة… الفرح والحزن..
وكذلك المؤامرات التي تنطلق منها… ونحوها… وحولها..
وفي تلكم البلدة النيلية – قديماً – طاحونة ذات شبهٍ بهذه في بعضٍ من الجوانب..
وأشرت إليها ذات مرة؛ وإلى الذي ينافس كبيرها الزعامة..
فقد تهامس الناس عنه..
وسرى الخبر بينهم سريان صوت الطاحونة العتيقة في فضاءات البلدة..
خبر سعيه إلى أن يطيح بالكبير – ابن الأكابر – شريف..
ولا نعني الطاحونة التي يُقال إنها مسكونة..
وإنما الأخرى كان يديرها كاجو بنفسه؛ رغم بلوغه من الكبر عتيا..
أما التي نعنيها هنا فهي طاحونة النصارى المهجورة..
الطاحونة التي ارتبطت في أذهان الناس بأحداث عدة؛ منذ توقفها عقب الفيضان..
منها حادثة زينة بنات البلدة – زينة – مع محجوب الفاجر..
وهي الحادثة التي رويناها بتفاصيلها الحزينة… الأليمة؛ في مناسبة سابقة..
ومنها حادثة سائق البص السفري الخلوق جنابو..
فقد توقف عندها ليلاً قبيل توجهه إلى أم درمان؛ وغاب داخل أطلالها المُخيفة..
توقف لسبب لا يزال مجهولاً لدى سكان البلدة..
ولكن وفقاً لروايات البعض فإنه شاهد التي تُشاهد هناك أحياناً؛ في الليالي المقمرة..
ثم لم يجرؤ أحد على الانجذاب إليها سوى ثلاثة..
أحدهم جُذب… والثاني جذبه المرض… والثالث انجذب صوب المجهول واختفى..
أما جنابو فقد تجاذبته أيدي كل الذي كان يتجنبه سابقاً..
أيدي الموبقات التي كان يهرب منها بسرعة هروب بصه من أيادي رمال الباجة..
فكان أن هرب منه صاحب البص… وزوجته… وسمعته..
ثم هربت منه روحه في ذات ليلة مقمرة بجوار الطاحونة؛ وهو شبه عارٍ..
ومنها حادثة الانقلاب موضوع كلمتنا اليوم..
فالكبير كان يحيط نفسه بعصبة موالية؛ تقابلها مجموعة معارضة بزعامة داؤود..
وداؤود هذا كان يطمع في الوجاهة منذ وفاة الوجيه الأب..
والذي ورث منه شريف الوجاهة… والزعامة..
فما كان يجد لذلك سبيلاً بفعل عامل الوراثة… وعنصر المعايشة… وقوة السلطة..
وعنصر المعايشة نعني به الميل للتعايش مع الأمر الواقع..
فأهل البلدة ما كانوا يحبون التحولات الفجائية المباغتة؛ إلا عند الشديد القوي..
وظل داؤود يعمل على تحقيق هدفه سنين عددا..
فرغم قوة بأسه… وناسه… ودهائه… إلا أن عيون الكبير كانت له دوماً بالمرصاد..
حتى بيته كان تحت الرقابة..
المكان الوحيد الذي لم ينتبه له عسس الكبير هو الطاحونة..
وفي جوف ليلةٍ – غير مقمرة – احتوى داؤود وجماعته جوف طاحونة النصارى..
وحين أشرقت شمس اليوم التالي كان داؤود يجالس الكبير..
كان يصافحه… ويصالحه… ويضاحكه؛ ويعاهده على فتح صفحةٍ جديدة معه..
وشرب الكبير المقلب رغم دهائه؛ مع شربه القهوة..
وفوجئ أهل البلدة بجماعة داؤود من كل حدب ينسلون؛ يلتفون حول كبيرهم..
ثم منه ينتشرون إلى مكامن عزته… وقوته… وسطوته..
وما كان الكبير بقادرٍ على الاستعانة بالحكومة..
فهو يعلم أنه إذا فتح هذا الباب فسيلج منه شرٌّ – نحوه – أسوأ من شرور داؤود..
فقد كان ظاهر استقامته يخفي وراءه باطن اعوجاجه..
وآخر من بقي إلى جانب الكبير- من مواليه – كان ساعده الأيمن شيخ البلدة..
وبإحلال أحد رجال داؤود محله اكتمل الانقلاب المفاجئ..
واكتمل توقف ذات الرمز من بعد ذلك حتى عن طحن الأحداث؛ بخيرها وشرها..
وعن طحن الحبوب كذلك..
وصار محض خرابة لا يذكر إلا بعض كبار السن إلى أنها كانت ترمز لمتناقضات..
للخير والشر… الجمال والقبح… الحق والباطل..
الطاحونة!.