بالمنطق
صلاح الدين عووضة
وبكت دماً!
في ليلة الدم..
أو ليلة الحُمرة… والخُمرة..
ومن القصص ما يكون للعِظة… والعِبرة..
وتتلخص هنا في عدم ظلم الناس؛ كيلا تتعرّض لثأر الناس..
ونعود إلى ليلةٍ في زمنٍ بعيد..
ليلة هجعت فيها مقرات من بعد سهر..
ولكن عريسها النعيم كان ينتظره ما طال تلهفه عليه مع آسيا..
وعند ساعات السحر الأولى دب دبيب الحياة في شرايين جزيرة الرباطاب الساحرة..
وكان الجو مثقلاً برائحة الخضرة؛ وعطر الخُمرة..
ونعيم هو كبير المنطقة… وفتوتها… والآمر الناهي فيها؛ بقوة السلاح..
واشتهر بتجبُّره هذا الذي طال حتى القوافل التجارية..
ومن ضحاياه عمر – خطيب آسيا – الذي شُوهدت جثته ملقاة على الشاطئ..
ولم يجرؤ أحدٌ على توجيه الاتهام إليه؛ رغم وضوح الدلائل..
وكان علماً على رأسه نار في ذلكم الزمان من بدايات القرن الثامن عشر..
والذي قتل فيه من رجال القوافل ما أثار عليه حنق الجميع..
جميع مرتادي طريق القوافل؛ من سواكنية… وسناريين… ودارفوريين..
وجلب عليه أيضاً نقمة العبابدة؛ أدلَّاء القوافل المصرية..
وراجت شائعة قوية بأن النعيم (تحصنه) تمائم… وتعاويذ… وطلاسم ضد الرصاص..
فهو ما كان يتأثر أبداً ببارود حراس قوافل الشمال؛ العبابدة..
وفي بربر – حيث كان يقيم حينها الرحالة لويس – سَرَت نصيحةٌ من شيوخها..
وتطابقت نصيحتهم هذه مع نصيحة شيوخ الدامر؛ الفضة..
قالوا لا بد من تلبيس الرصاص بالفضة كي تُبطل مفعول (حجبات) النعيم..
وهي النصيحة ذاتها التي نجدها في أفلام مصاصي الدماء..
وأتت إلى بربر في ذلكم الأثناء قافلة تخص باشا مصر؛ ويحرسها العبابدة..
فتسلّحوا بعيارات الفضة تحسباً لغدر نعيم..
ولكنهم علموا أن عدوهم مشغول بزواجه من فاتنة مقرات – وما جاورها – آسيا..
فاطمأن رسل الباشا؛ وفكروا في التعجيل بالسفر مع بضاعتهم..
ولم تكن البضاعة سوى عبيد… وجوارٍ… وغلمان..
وقبيل موعد الرحيل بيوم عجل العبابدة بالمغادرة للانتظار عند بئر شقرة..
وكانت حجتهم مقبولة؛ فالبئر لا تسقي كل القافلة مرةً واحدة..
فماؤها ينضب سريعاً؛ ثم يفيض بعد يوم أو أكثر..
ولكن العبابدة أضمروا أمراً – شراً أو خيراً – وبدّلوا وجهتهم غرباً من بعد شرق..
ثم حاذوا النيل شمالاً وهم يستحثون جمالهم على الهرولة..
وكان مؤذن جامع مقرات يملأ خياشيمه برائحة الخضرة… وعطر (الخُمرة)..
وقبل أن يُنبِّه لصلاة الفجر سمع صرخة أنثوية من دار نعيم؛ فاستغفر الله..
ثم أعقبتها صرخات رجولية منكرة اهتزت لها مقرات كلها..
وتضرج العريس بدمائه؛ وذاق من الكأس التي أذاقها الألوف..
وأُسرت العروس… وتزوّجها أحد قاتلي زوجها… وسافر بها إلى مصر..
وبعد سنوات فوجئت مقرات بآسيا تعود… ومعها طفل..
وتشاء الأقدار أن يكون الطفل هذا أحد وجهاء مقرات بعد ذلك..
ولسنوات أخرى ظلت أمه تحكي عن تلكم الليلة..
ليلة الدماء… والدموع..
أو ليلة الحُمرة… والخُمرة..
وتبكي دماً!