أجواء السلام الحاليّة ومُبادرات التفاوُض مع الحركات المسلحة ومحاولة ضمها للاصطفاف السياسي المُسمَّى بقوى الحرية والتغيير، خطوات إيجابية في البناء الوطني، لعلّ أهمها التحوّل من مجموعات تحمل السلاح إلى حركات سياسية ذات طابع مدني، فالوضعُ الراهن الذي عليه المجموعات التي كانت تحمل السلاح سواء الموجودة حالياً في الداخل أو التي لا تزال تحتفظ بقواتها خارج البلاد، ولم توقّع أية اتفاقيات سلام، هو وضعٌ صنعته حكومة الإنقاذ السابقة، فكل مشاريع السلام مع الحركة الشعبية أو حركات الشرق ودارفور وجنوب كردفان والنيل الأزرق، هي مشروعات بدأتها وسارت عليها سلطة الإنقاذ السابقة، منها ما نجح وكانت له ثمارٌ دانية، ومنها ما أخفَق ولم يكتمِل، لكنه كان في المسارِ الصحيح، ولذا لا تستطيع عملياً وموضوعياً قوى الحرية والتغيير ووفدُها المتنوّع الموجود في أديس أبابا إقناع الحركات المسلحة بجدوى الانضمام للعملية السياسية، وأن يكونوا جزءاً منها، والأسباب معروفة نُلخّصها في ما يلي:ــ
أولاً: ظلّت مُكوّنات الحرية والتغيير حليفاً للحركات المسلحة وظهيراً مُسانِداً لها، ولم تتصوّر يوماً أنها ستجلِس مع من يحملون السلاح، وهم في الطرف المُقابِل لإقناعهم بالعودة والاندغام في العمل السياسي عبر بوابة الاتفاق الإطاري المُوقّع بالأحرف الأولى مع المجلس العسكري، فالحرية والتغيير تنطلق في اجتماعات أديس من موقعٍ غاية في الغرابة، هي تتأهّب لتكون جزءاً من التركيبة السلطوية القادمة وشريكاً في الحكم مع المجلس العسكري، وتعلم أن مشاركتها المُرتقبة في السلطة رهينة بمواقِف الحركات المسلحة التي إن خرجت من التحالُف ورفضت أي اتفاق بين المجلس العسكري والحرية والتغيير، ستتغيّر المُعادَلة السياسية، وسيضعَف موقف الأخيرة أمام المجلس العسكري، ولذا يُحاوِل قادةُ الحريّة والتغيير كسب الحركات لصالح الاتفاق السياسي والإعلان الدستوري بأي ثمن مهما غلا وارتفعت قيمته، فما يجعل الحوارَ عميقاً وطويلاً ومُضنِياً ومُرهِقاً وعَصِياً، هو موقف الحركات المسلحة التي تُريد نصيباً أكبر وتنازُلات أكثَر ومتغيرات تفتح الشهية للمشاركة، فهذا هو المأزُق الراهن الذي لا تستطيع اجتماعات أديس أبابا الخروج منه بما يُرضي طرفي الاجتماعات.
ثانياً: كل القضايا التي تُثار الآن حول ترتيبات بناء السلام وتحقيقه وقسمة السلطة وما يُصاحبها بعد ذلك من الترتيبات الأمنية والعسكرية وقضايا مثل الهوية ونظام الحكم وكيفية إصلاح مؤسسات الدولة والتخلّف والقصور التنموي، والعلاقة بين المركز والأطراف، هي قضايا قَطَعتْ فيها المُفاوضات السابقة بين نظام الإنقاذ والحركات أشواطاً مُتقدّمة، ليس هناك خيار أمام الحرية والتغيير والمجلس العسكري نفسه إلا أن يبدأ من حيث انتهى النظام السابق، فمن الأفضل للمجتمعين في أديس أبابا ألا يعملوا على سلخ جلد النملة من جديد، والدوران داخل دائرة التفاوض الفارِغة، كل ما عليهم الآن بل يلزمهُم أن يعيدوا النظر كرّةً وكرَّتين في ما فعله النظام السابق في ملف السلام، وما تضمّنته الجولات التفاوضية منذ العام 2011م، لاستنباط الحلول حول قضية السلام التي تشترط الحركات اليوم إعطاء الأولوية لها وتقديمها على تشكيل الحكومة الانتقالية.
إذا كانت الإنقاذ في السابق سعت إلى السلام حتى حَفِيَتْ أقدامُها، وتعنّتَتْ الحركات حتى ملّها الناس وسئِم منها الوسطاءُ في الآلية الأفريقية رفيعة المستوى بقيادة الرئيس الجنوب أفريقي السابق ثابو مبيكي، نخشى على أطراف اجتماعات أديس أبابا الحالية من إعادة استِنسَاخ تلك المحاولات مع الحركات، خاصة أن هناك حركات لم تأبه ولم تُولِ اهتماماً لما يدور بين الحرية والتغيير ورفقاء الكفاح المسلح، فموقف حركتي عبد الواحد محمد نور، والفصيل الأكبر في الحركة الشعبية قطاع الشمال بقيادة عبد العزيز الحلو، ورفضهما المشاركة في الاجتماعات وابتِعادِهما عنها بُحُجّة عدم وجودهما داخل الكيانات المجتمِعة، سيُضعف من النتائج التي قد تتمخّض وتنتِج عنها..
ملفُّ السلامِ ملفٌّ واحد لا يتجزّأ، على الجميع البحث عن ما يُجنّب البلاد الفرقة والتشتت والشقاق، الحلول التبعِيضيّة لا تنفع ولا البيع بالتجزئة لا يُجدي.. ابنوا على ما فعلتُه الإنقاذ في محاوِلاتها، فلها إرثٌ جيّد ومحاوُلات قيّمة وأدبيّات ذات نفع..