بالمنطق
صلاح الدين عووضة
الخطى!
خطى مجهولة..
أو خطى لمجهول غير ذي وجود..
أو ربما كان ذا وجود ولكنه غير مرئي..
فهو لا يرى صاحب الخطى هذه التي تتبعه – كظله – حيثما ذهب..
وساقته خطاه – هو – إلى حيث يلتمس العلاج..
فذهب إلى شيخٍ… فثانٍ… فثالثٍ؛ غير أنّ الخطى لم يكف وقعها عن متابعته..
فهي لا تتوقف إلا عندما تتوقّف خطاه هو..
ثم ذهب – بعد إلحاحٍ من بعض أصدقائه ذوي الثقافة – إلى طبيبٍ نفساني..
قالوا له إن الحل عنده… لا لدى الشيوخ..
فسأله الطبيب: منذ متى وأنت تسمع وقع هذه الخطى من ورائك؟..
اجتهد في محاولة تذكر البدايات..
فهنالك أحداثٌ ثلاثة ربما يكون أيٌّ منها هو مصدر الخطى التي تتبعه..
أو أن تاريخ هذه الخطى ارتبط بها..
والأحداث هذه وقعت جميعها منذ نحو شهرين… وفي فترة زمنية واحدة..
ومنها حادثة الكنيسة..
وذلك حين ولجها – لأول مرة في حياته – لحضور زواج صديقٍ له قبطي..
وعندما خرج خرجت وراءه الخطى؛ ربما..
ثم حادثة المتسولة الغريبة..
فقد بدت له غريبة في كل شيء… حتى في نظراتها له وهو ينفحها جنيهاً..
بل نظرات عينٍ واحدة… فالأخرى كانت بيضاء..
وما كان يبدو عليها أنها سودانية… وإنما على الأرجح من دولة مجاورة..
وحار في فهم نظراتها تلك… ثم مضى..
فمضت خلفه الخُطى هذه ربما… فهو غير متيقن من البدايات..
ولكنه متيقن من شيءٍ واحد..
وهو أن تلكم النظرات – من العين الواحدة – اخترقت فيه شيئاً لا يعلم كنهه..
علماً بأنها كانت ذات جمالٍ خفي… بدا غريباً هو نفسه..
ثم حادثة المقابر..
وذلك حين شارك في تشييع أحد الجيران ليلاً… ومعه صديقه الحميم..
والذي هو جاره بالحي أيضاً..
وقد كان أكثر الناس قلقاً على حالته النفسية هذه… من بعد أفراد أهله..
فعند إهالة التراب على المقبور ابتعد قليلاً..
ووجد نفسه أمام شاهد قبر جذب انتباهه لغرابة الاسم… وما كُتب عليه..
فلم يكن من مألوف ما يُكتب على الشواهد..
سيما الاستشهاد ببيت الشعر الشهير… مع تحريفٍ لضمير القائل..
فكان أن كُتب هكذا:
مشاها خطىً كُتبت عليه ومن كُتبت عليه خطىً مشاها
فبقي بجوار القبر برهةً ثم رجع..
رجع إلى حيث القبر الحديث الذي كان يُهال عليه التراب..
فانتبه – مع كثير ذهول – إلى أنه لم يكن هنالك سوى صمتٍ مخيف..
صمت القبور… ولا أحد من المشيعين..
حتى صديقه الحميم لم يجده… وربما صديقه هذا هو الذي لم يجده..
فكان أن تركه وذهب مع الذاهبين..
ثم انتبه إلى أن الزمن الذي ظنه برهة كان طويلاً… طويلاً..
وعندما ابتعد من القبر تبعته الخطى..
هذا ما حكاه – مع شيء من التعديل – لطبيبه النفساني..
فشخص حالته هذه على أنها درجة من درجات الفصام… أو الشيزوفرينيا..
وكتب له علاجات… على أن يُراجعه دورياً..
ولكنه لم يراجعه ولا مرة واحدة؛ فقد كانت هي الأولى والأخيرة..
أو كانت هي الخطى الأولى – والأخيرة – إليه… ومنه..
تتبعها الخطى الغامضة هذه..
وما بقي من حكايته مع الخطى – والنهايات – حكاه صديقه – وجاره – هذا..
قال إن حالته بدأت تتراجع؛ صحياً… ونفسياً..
إلى أن جاء صباحٌ وُجد فيه جثة هامدة على فراشه… وعيناه شاخصتان..
وعند الفراغ من قبره بقي هو إلى جانبه حيناً..
كان يدعو له… ويبكي… ويسترجع ذكرياتهما – وخطاهما – معاً..
ثم تولى عنه – عن القبر – وهو ينتحب..
ويجزم أنه سمع لحظتها – ومع صمت المقبرة – صوتاً ينتهي عند القبر..
صوت خطى!.