هناك فرق
منى أبو زيد
اعتباراتٌ عاطفيةٌ..!
“إذا لم تستطع عمل شيء بإتقان فاجعله – على الأقل – يبدو مُتقناً”.. بيل غيتس..!
من ملاحظات والدي – حفظه الله – والذي كان مغترباً لأكثر من أربعة عقود، عندما عاد واستقر به المقام في أرض الوطن، أن المقامات الرسمية في مُجتمعنا المحلي قد طغت وتغوّلت على المقامات الاجتماعية، فَبَاتَ الناس يُقدِّمون احترام الصفة الرسمية والمهنية على قيم إنسانية كفارق السن أو اعتبارات الجندر. على العكس تماماً من الصورة التي كانت سائدة قبل اغترابه في سبعينات القرن الماضي..!
ومن طرائف تلك الاعتبارات التاريخية النبيلة، علاقة “ساعي المدرسة” التي كان والدي يعمل بها معلماً بمدرسة قريته – في ريفي دنقلا – بطاقم التدريس. فجميع من في المدرسة كانوا جيراناً، ومعظمهم أقارب، الأمر الذي كان يحتم عليهم اختزال درجات السلم الوظيفي..!
ولأنّ ساعي المدرسة كان هو نفسه “العم فلان” الذي ينتصب المدرس الشاب كالرمح للسلام عليه في مجلس والده، ويخف إلى إكرامه حافياً، ويسكت في حضرته تأدُّباً – لأجل تلك المضامين النبيلة كلها – لم يكن ذات المُدرِّس يستطيع أن يرتدي بزّة الموظف الأعلى درجة في علاقته الرسمية بذات “الساعي” في أروقة المدرسة..!
وعليه، فقد كان ذلك “الساعي” يصنع من عمامته وسادة وثيرة يضعها تحت رأسه ويتمدّد بزاوية شبه مائلة تحت الأزيار النديِّة، وما أن يمر بجواره أحد المُدرِّسين وهو في طريقه إلى أحد الفصول حتى يهتف به من موقعه الأثير تحت الزير “يا ولدي، بالله معاك موية”..!
فأهل القرى متفقون ضمنياً على تجاهل الفوارق الطبقية داخل وخارج أروقة العمل الرسمي، و”الساعي” – كبير السن، وبالتالي المقام – الذي تصادف أن يكون جاراً لوالد مدير المدرسة قد يقارع نفوذه الرسمي بمكانته الاجتماعية وسطوته الجيلية كجار أو صديق لوالده. وهكذا. ومبعث احتجاج والدي ومجايليه هو أن تلك الأعراف الجميلة قد أخذت تخبو شيئاً فشيئاً بسبب بعض المثالب السلوكية والمُتغيِّرات الاجتماعية..!
بطبيعة الحال اتّفق كثيراً مع وقفة جيل والدي مع احترام اعتبارات السن والقرابة داخل وخارج أروقة العمل، كما اتّفق معهم على سمو البُعد الإنساني لنزوعنا المحلي الشائع نحو التبسط والقفز فوق بعض الحواجز والفوارق. لكني اختلف – كثيراً – مع القائلين بالإفراط في تعميم مثل هذا النوع من المعاملة في علاقات العمل العام..!
الذين يتساءلون عن السر في تفضيل المُستثمرين وأصحاب المشاريع للعَمَالة الوافدة على العَمَالة المحلية في بلادنا ـ رغم ارتفاع الكلفة المالية والتبعات الإدارية المُربكة لاستقدامهم ـ ينسون أن “ود البلد” الذي يتحوّل إلى غريب، أديب، منتج، مجتهد، عندما يكون مقيماً في بلاد الناس، كثيراً ما يستمرئ الخلط بين الرسمي والشعبي، والعام والخاص، عندما يتعلّق الأمر بإنجاز عمل بين ظهراني أهله وذويه..!
لهذا السبب يلجأ الكثير من أصحاب العمل إلى خيار العَمَالة الوافدة، المُلتزمة بشروط المهنية، توفيراً لكثير من الوقت والجهد المُهدر في مُجابهة عشوائية العَمَالة المحلية، التي تعوِّل كثيراً – في تقاعسها المهني – على اعتبارات الجيرة والقرابة والعشم..!
علينا أن نتفاءل إذاً بظاهرة “تلقيح” العَمَالة المحلية بالعَمَالة الوافدة. إذ – وعلى الرغم من شيوع بعض المساوئ وثبوت بعض المثالب – يبقى هنالك مردودٌ إيجابيٌّ على مستوى الالتزام والمهنية. الأمر الذي قد يؤدي إلى انحسار بعض الأنماط السلوكية السالبة والشائعة في مجتمعاتنا المحلية، المَهيلة من جهة، والنبيلة – بعد ذلك كله – على وجهٍ ما..!
munaabuzaid2@gmail.com