في بلد العميان ..!

 

“لا تكونوا إمعة، تقولون إن أحسن الناس أحسنَّا وإن ظلموا ظلمنَا، ولكن وطِّنوا أنفسكم إن أحسن الناس أن تحسنوا وإن أساءوا فلا تَظلموا” .. حديث شريف، رواه حذيفة في سنن الترمذي ..!

الكاتب البريطاني “هربرت جورج ويلز” له حكاية بديعة حافلة بالإسقاط، اسمها “أرض العميان”، تقول: إن مجموعة من سكان “بيرو” الهاربين من بطش ملك الأسبان تمكنوا من الوصول إلى وادٍ معزول خلف الجبال، وأقاموا فيه لفترة من الزمن، ثم وقعت هزة أرضية عنيفة تلتها انهيارات وفيضانات أدت إلى سقوط صخورضخمة على مدخل الوادي، فأصبحوا منعزلين تماماً عن بقية العالم ..!

كان الوادي يزخر بكل مقومات الحياة فعاشوا فيه بأمن وسلام قبل أن ينتشر بينهم وباء غامض نتج عنه أن جميع أطفالهم يولدون فاقدي البصر، جيلاً بعد جيل، وعندما يشبون عن الطوق كان الكبار يقودونهم، فيعرِّفونهم على تضاريس المكان، وهكذا تعلموا فنون العيش بيسر دون الحاجة إلى البصر، وبتعاقب الأجيال أصبح جميع سكان الوادي عميانا ..!

إلى أن جاء يوم انزلق فيه شاب كان يتسلق أعلى الجبل وتدحرج عبر كثبان الثلج إلى طرف الوادي، وكانت تلك أول مرة يحل فيها شخص مبصر على سكان القرية، فتحلقوا حوله يتحسسون وجهه بلطف، ويستمعون إليه في اهتمام. وعندما حاول أن يشرح لهم حياة المبصرين لم يفهموا شيئاً مما يقول، واتهموه بالجنون. فحاول الفرار ولكن أنهكه التعب بعد مسيرة أيام دون جدوى، فعاد إليهم وقبلوا وجوده بينهم ..!

أحب الشاب المبصر إحدى فتيات القرية حباً جماً وتقدم لخطبتها، فطلب والدها مشورة حكيم القرية الذي قال إن سبب جنون الفتى هو عينيه، وأنه يجب أن يصاب بالعمى قبل أن يتزوج منها. بعد لأيِ وعنت رضخ الشاب لشرط حكيم القرية. ولكن في ساعة التنفيذ انتصر حبه للحياة، فقرر الفرار من أرض العميان، ونجح في ذلك ..!

معاناة الاختلاف هذه تناولها – أيضاً – أوجين يونسكو في مسرحية “الخرتيت” التي تحكي عن سكان بلدة فرنسية صغيرة يتحولون إلى خراتيت سيئة السلوك تدمر معالم الحضارة، ما عدا بطل الحكاية الذي ظل إنساناً على حاله، لكنه شَقِيَ باختلافه، وفقد آخر أمل في التغيير بعد انضمام خطيبته إلى قطيع الخراتيت، فعاش في تنازع وأوشك على الرضوخ، لكن بارقة أمل سطعت بداخله، فقرر أن يُجدِّد عهده مع الصمود، وأن يخرج لمواجهة حشود الخراتيت ..!

الحكايتان تَشُدَّان من أزر نص آخر عريق، وشهير، هو كتاب “اللا منتمي” الذي يقول مؤلفه “كولن ويلسون” إن الشخص الذي ينطبق عليه العنوان هو العاقل الوحيد في عالم المجانين، لأنه يدرك ما تنهض عليه الحياة الإنسانية من أساس واهِ، ويشعر أن الاضطراب والفوضوية – في كثير من الأحيان – أعمق من النظام الذي يحكم حياة من حوله ..!

وهو في نظر الآخرين مشكلة اجتماعية، لأنه يميل إلى التعبير عن قناعاته بمصطلحات وجودية لا علاقة لها بلغة الواقع. ولأنه شخص خارج على أطر المجتمع، غير منتمٍ لتقاليده وأعرافه الملزمة، ولأنه يطمح إلى عالم مثالي غير موجود، ولأنه يتعذب بتفرده واختلافه عن بقية من حوله، ولأنه ينفر من المجتمع، ولا يستطيع أن يخضع لشروطه، ثم لا ينجح في أن يخضع المجتمع لشروطه هو ..!

اللا منتمي في عالمك قد يكون جارك غريب الأطوار الذي يتعامل وفقاً لمبادئ لا يكترث لها الآخرون، أو زميلك الموظف المطحون الذي يجهد نفسه في الالتزام بمسارات أخلاقية ويحقق من خلال التزامه نتائج إيجابية من وجهة نظره، غير مرئية لبقية مجتمع يرفض منطقه. وقد يكون اللا منتمي سياسياً ذا فكر إصلاحي غير مضبوط على موجة حزب أو تيار سياسي بعينه، أو مسئولاً تنفيذياً لا يُزيِّف المنجزات ولا يتظاهر بالعمل. لكنه رغم ذلك يَشقَى باختلافه وبموقف الآخرين من اختلافه عنهم ..!

منى أبو زيد

          [email protected]

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى