بالمنطق
صلاح الدين عووضة
تكرار!
والتكرار ممل..
وسئمنا – في بلادنا هذه – التكرار السياسي… والاقتصادي… وحتى الغنائي..
منذ نيلنا استقلالنا ونحن في حالة تكرار..
حزبية… انقلاب… شمولية … حزبية… انقلاب… شمولية… وهكذا لما لا نهاية..
أو – على الأقل – إلى زماننا هذا..
وحتى في الرياضة نعيش آفة التكرار على نحوٍ مجلبٍ للإحباط المقرف..
فنحن لا نصعد قليلاً إلا لنهبط سريعاً..
وعقب كل هبوط نسمع نغمة زهقنا من تكرارها وهي: استفدنا من التجربة..
منذ سبعين عاماً ونحن نزعم استفادتنا من التجربة..
ثم لا نرى أوجه الاستفادة هذه على أرض الواقع… ولا في سماء الخيال..
فحتى خيالنا محدود… وبلا أفق..
ثم نضحك – بلا حياءٍ – على الحمار، ونقول إن كثرة التكرار تعلمه..
ولكنا لا نرقى لمرتبة الحمار هذا فنستفيد من التكرار..
فالحمار لا يحتاج إلى أكثر من مشوار واحد لوجهةٍ جديدة يقصدها صاحبه..
بينما صاحبه قد يكون قصد وجهةً ما عشر مرات..
ونعني وجهة من وجهات الحياة العملية… أو العلمية… أو الاجتماعية..
ثم لا هو يصل… ولا يمل التكرار؛ فأيهما الحمار؟..
وزميلٌ لنا – خلال إحدى إجازاتي بالبلد – كان يستقل الحمار وصولاً للمدرسة..
فحفظ الحمار السكة؛ ذهاباً وإياباً..
بينما لم يحفظ هو سورة… ولا قصيدة… ولا معادلة… طوال عامٍ دراسي..
فاضطُّر إلى إعادة الصف؛ تكراراً..
ونحن نتكلم كثيراً في كل شيء – وعن كل شيء – ولكنه محض تكرار..
اقرأ صحفنا… وانظر لشاشاتنا… واستمع إلى إذاعاتنا..
سوف تجد – إن انتبهت – أنه تكرار في أسخف تجلياته؛ مجرد كلامٍ مكرر..
وأقول إن انتبهت لأننا قلما ننتبه..
فإن فعلنا فسنكتشف إلى أي حد نحن مثيرين للملل… والسخف… والسأم..
حتى نشرات أخبارنا هي تكرار ممل..
فالأحداث هي نفسها… والسياسات هي نفسها… والمفردات هي نفسها..
فقط يختلف الزمان… والمكان… والإنسان..
فمذ كنت طفلاً وأنا أسمع مفردات من قبيل وجَّه… وتفقد… ووقف… واطمأن..
وقبل كل مفردة من هذه كلمة سيادته..
وكأن سيادته ليس من واجبه أن يوجه… أو يقف… أو يتفقد… أو يطمئن..
فإن فعل فهذا إنجاز يستحق ترويجاً إعلامياً..
منتهى الملل… والسخف… والسأم… والقرف؛ والذي يتكرر إلى ما لا نهاية..
ومذ كنت طفلاً – كذلك – وأنا أسمع تحريفاً لاسمي..
أسمع من يناديني مازحاً – أو كارهاً – صلاح بعوضة… بدلاً من عووضة..
ثم يضحك كأنه اكتشف شيئاً طريفاً… وظريفاً..
وقبل أيام – وقد غدوت كبيراً – نصحت أحدهم بأن يبتكر… ولا يكرر..
أن يبتكر تحريفاً جديداً لاسمي؛ إن كان لابد..
قلت له لقد سئمت – حد القرف – من تكرار مناداتي بهذا الاسم سنين عددا..
فأحبط إذ انتبه إلى أنه لم يأتِ بجديد..
ثم هنالك التكرار السقيم – والسخيف – لمحاولات وضع دستورٍ دائم لبلادنا..
ولو بُعث جد أحدنا من مرقده لأصابه الذهول..
لُذهل جرّاء تكرارنا لأشياءٍ… وأفعال… وأقوال… تكررت خلال حياته كثيراً..
سيما حكاية الدستور هذه..
ولتساءل بكل الدهشة: أما زلتم تحاولون؟… ثم تعجَّل إعادته إلى قبره..
وكثيراً ما أرجع إلى أرشيفي الصحفي..
فأجد أن العديد مما كتبت يصلح لما قبل… وما بعد… وما هو كائنٌ الآن..
من لدن الاستقلال… وإلى أيامنا هذه..
وكلمتي هذه نفسها اليوم – إن مد الله في الآجال – قد تصلح بعد عشر سنوات..
وستكون نشرات أخبارنا هي ذاتها..
هزائم رياضية تعقبها عبارة: لقد استفدنا من التجربة لمقبل المواعيد..
ومطربٌ شاب يغني: في رونق الصبح البديع..
ومجموعة تعكف على وضع دستورٍ دائم بأمر الحكومة القائمة؛ أي حكومة..
ونشرات أخبار تبدأ بمفردات: وجًّه… ووقف… وتفقَّد..
ومارشات عسكرية يعقبها بيان مهم؛ فيلغي كل شيء… ويبدأ من لا شيء..
قرف… وسأم… وزهق… وملل..
وتكرار!.