مصطفى سيد أحمد.. نحو جغرافيا أخرى!!
تجربة مغايرة من حيث البناء الفكري والجمالي
مصطفى سيد أحمد.. نحو جغرافيا أخرى!!
كتب: سراج الدين مصطفى
نوع من التحليق
التمعُّن في تجربة الفنان السوداني الراحل مصطفى سيد أحمد هو نوع من التحليق والتحديق في عوالم تحتشد بالكثير التكوينات المغايرة من حيث البناء الفكري والجمالي.. لأن مصطفى سيد أحمد لم يكن فناناً مطرباً محدودا في جغرافيا الشعر والموسيقى والتأليف الموسيقي واللحني، ولكنه أصبح كائنا معتديا على الكثير من الأبواب التي ظلت عصية.. لذلك فهو أقرب للفنان المفكر الذي يمتلك مشروعاً متكاملاً ووافياً للكثير من المتطلبات الروحية والشعورية والوجدانية.. لذلك التمسك بتجربة مصطفى رغم رحيله قبل سنين طوال هو نوع من التمسك بمشروع حياتي يرتكز على توفير القيمة الأساسية للانسان .. ومن الظلم في تقديري أن نصف مصطفى بأنه فنان المثقفين أو تنميطه في خانة اليسار .. لأن غنائية مصطفى أكدت أنه وطن يسع الجميع بلا طبقات أو موازنات.. لذلك وجدنا أنفسنا وبالبديهة ننحاز لهذا الدفق الشعوري البديع.. لأن مصطفى استلف ألسنتنا وأصبح ناطقاً رسمياً بحالنا وهمومنا وتطلعاتنا.
فترة معهد الموسيقى
التحق بمعهد الموسيقى والمسرح وأكمل خمس سنوات بقسم الموسيقى “قسم الصوت”، إلاّ أنه لم ينتظر حتى ينال شهادته الأكاديمية. متزوج وله طفلان “سامر وسيد أحمد” له من الأخوات سبع وشقيق توفي عام 1970م “المقبول ” وهو شاعر غنى له مصطفى. عانى من المرض كثيراً فقد لازمه الفشل الكلوي مدة طويلة “15 عاماً” أجرى خلالها عملية زراعة كُلى بروسيا أواخر الثمانينات .. وصحيح أن مصطفى سيد أحمد لم يكن هو الفنان الذي وضع لبنة الغناء الأولى ولكنه كان امتداداً جمالياً للعديد من الاسماء التي ساهمت في صياغة وجداننا السماعي وغرست فيه الغناء المعافي والطاهر.
طفرة هائلة على مستوى التفكير
أحدث مصطفى طفرة هائلة على مستوى التفكير في شاكلة الغناء وإن كان البعض يعتبره مجدداً من حيث الطرح الجديد في المفردة الشعرية التي اتسمت بالحداثة والتجديد ولعله أيضاً يعتبر رائداً في إدخال الرمزية في الشعر والغناء وإن سبقه على ذلك محمد وردي في أغنية (الود) التي تعتبر الشكل الحداثي الأول والرمزي على مستوى الغناء السوداني الذي اتسمت مفردته في معظم الأوقات بالمباشرة والعادية.. ومصطفى بحسب خبراء الموسيقى لم يحدث تغييراً هائلاً على مستوى التأليف الموسيقى والألحان ولم يكن أثره مثل محمد الأمين وإبراهيم الكاشف الذين جاءوا بأشكال موسيقية جديدة لم تألفها الأغنية السودانية، حيث كان محمد الأمين حاضراً ومجدداً عبر أغنيته (شال النوار) التي تعتبر فتحاً جديداً تطاول فوق جدار العادية.
تهديد عرش الكبار
بعد أن حقق انتشاراً لافتاً هدد به عرش كبار مطربي السوداني تعالت ظاهرته الفنية والموسيقية وقدرته على اختيار مفردة شعرية متجاوزة لحال السائد والراهن في الغناء السوداني حيث تنامى صوت مشروعه الغنائي بقدر مدهش حيث وجد من الاحتفاء ما لم يجده من قبله ولكنه تعرض لانتكاسة جديدة بداية عام 1993 بالقاهرة وانتقل منها للعلاج بالدوحة حيث ظل هناك يباشر عملية الغسيل الكلوي ثلاث مرات في الأسبوع إلى أن توفاه الله مساء الأربعاء 17 يناير 1996م.
نحو جغرافيا أخرى
غنائية مصطفى سيد أحمد لم تلامس الوجدان السوداني وحده بل تعدت المحلية وتحركت نحو جغرافيا أخرى.. لأنه أراد لها أن تكون لكل الناس بلا تمايز في العرق أو السحنة أو الدين.. أغنياته تصلح لكل زمان ومكان ولا تعترف بحدود الجغرافيا أو التاريخ لأنها ذات كيمياء خالصة له خاصية التفاعل مع كل وجدان إنساني سليم.. تجربة مصطفى سيد أحمد توقف عندها الكثيرون الذين ليس مكتوبا في جوازات سفرهم أن عيونهم عسلية أو ممنوعون من السفر لإسرائيل بحسب قرار إدارة الهجرة والجنسية السودانية.
حالة تستحق التأمل
في تقديرنا (كلنا) مصطفى سيد أحمد يستحق أن نقف عنده متأملين ومتدبرين ما أحدثه من تجديد وتطوير على كل الأصعدة الفكرية والموسيقية.. ومنذ رحيل مصطفى سيد أحمد الذي وصلت سنينه الى ثلاث عشرة أسهب الجميع في دراسة تفاصيل تجربته الغنائية وكتبوا فيها ما كتبوا وقالوا فيها الكثير ولم يترك الجميع جزئية في حياته إلا وتطرقوا لها .. وخلال الأعوام التي تلت رحيل مصطفى كانت كل الصحف تقريباً تصدر ملفات خاصة عنه وظل يوم 17/1 هو اليوم المخصص لتخليد ذكراه.