23 نوفمبر 2022م
فهو بالع..
فقد كان يوماً عجيباً… غريباً… عصيباً؛ عنوانه البلع..
بدأ به…… وبه انتهى..
وكان ذلك قبل سقوط البشير… كيلا يأتي من يقول لي: ألديك ما تبلع به؟..
سواءُ مالاً؟…. أو شهيةً؟…. أو عافية؟..
رغم إنه كان زماناً بشيرياً عنوانه – كذلك – بلع… يبلع… بلعاً..
المهم الجو كان جو بلع..
وكان يوماً خريفياً منعشاً… فاتحاً لشهية البلع..
فاقترح أحد رفقائنا بأن يأخذنا بسيارته إلى حيث نبلع… بلعاً..
وكان أكثرنا مالاً… و(أفتحنا) شهية..
فوافقنا فوراً؛ وكنا نعلم أن رفقته ذات فوائد..
فوائد غذائية… ونفسية… وترفيهية؛ فهي رفقة محمودة العواقب دوماً..
فهكذا عهدناه… منذ أن عرفناه..
وما كنا نعلم ما يخبئه لنا القدر من عاقبة – وعقاب – في يومنا ذاك..
فانطلق بنا صوب (رويال بروست)… فرع الخرطوم..
وهو يطل على شارع أفريقيا..
وكان يغني… ومذياع عربته يغني… وكل ما حولنا يغني..
بل حتى شرطي المرور عند الدوار المقابل لمشفى الأطباء كان يغني..
فما من شيء إلا وكان يغني في ذياك الصباح..
السحب في السماء… والضفادع في الماء… والأطيار في الفضاء..
وبداخل سيارتنا غناء..
ولكن غناءنا الداخلي صمت فجأة؛ سكت سائقنا… وأسكت مذياع عربته..
وكأن طاقةً ما قد قُطعت عنه… وعن مذياعه هذا..
وعنا نحن جميعاً..
تماماً كما تصمت فرقة غنائية – على المسرح – عند انقطاع طاقة الكهرباء..
فقد كان محل البلع مغلقاً للصيانة..
ولكن قائدنا تمالك نفسه سريعاً… بفضل طبيعته الفرائحية… المتفائلة..
ودمدم كما الرعد من فوقنا: ما من مشكلة..
ثم انطلق بفارهته… وانطلق – مع انطلاقتها – يغني مرة أخرى..
حتى إذا بلغ شارع النيل ابتلعت المياه عربته بلعاً..
وهو يردد مع زيدان (وفي دربك خطاي تمشي معاك لآخر السكة)..
وبلغت خطانا آخر سكته..
فإذا بنا أمام مطعم (عوضية للأسماك)… في شارع الموردة..
وولجنا من خلفه… ونحن نُمنِّي أنفسنا بالبلع..
فما أشهى السمك في طقسٍ ماطر… سيما الذي اشتهرت به عوضية هذه..
وما أن جلسنا حتى قيل لنا: ما من سمك..
فعوضية سمك لم يكن لديها سمكٌ في ذلكم اليوم… أو قد تم بلعه كله..
فأبرق وجه مضيفنا… وأرعد… وكاد يُمطر..
أو لعله أمطر دمعاً بالفعل؛ مسحه بمنديله مع حبيبات المطر على وجهه..
ثم تارةً ثانية رجع إلى طبيعته في ومضة برق..
وبسرعة الوميض انطلق بنا نحو مكانٍ ثالث اقترحه للبلع..
وجاوزنا المنتزه… فالمسرح… فالقناة… فالتلفزيون… ونحن نتجه شمالاً..
وخيم صمتٌ حزينٌ – هذه المرة – داخل السيارة..
وصمت المذياع… وصمت هو… وصمتنا نحن… وصمت المطر..
بل بدا لنا كل شيء – بالخارج – صامتاً أيضاً..
الشيء الوحيد الذي لم يصمت هو أمعاء بطوننا؛ وقد كاد النهار ينتصف..
وكصراخ بطوننا صرخت الكوابح فجأة..
فقد فوجئنا بسيارات الشرطة تسد الطريق من بعد منعطفٍ حجب عنا الرؤية..
ومحل السمك – كما قال قائدنا – يقبع خلفه تماماً..
ولم ندر سبب الزحام الشرطي؛ فأحدهم قال لنا إن ثمة جريمة قتل..
وآخر قال: لا؛ بل هي محاولة ضبط مجرم..
وثالث قال: لا هذا ولا ذاك؛ بل هنالك حادثٌ مروري ذو ضحايا..
وشعر بعضنا بأننا ضحية شيءٍ ما..
وهنا – هنا فقط – فارقت سائقنا روح تفاؤله الطفولية المرحة..
وطفق يهمهم: أي نحسٍ هذا؟..
وعرج بعربته نحو شارعٍ جانبي؛ وكان مليئاً بمياه المطر..
وبدأ شعورنا بضرورة أن نبلع – بلعاً – يتلاشى..
ثم بعد قليل تلاشى شعورنا بأي شيء..
أو بقي لدينا شعورٌ واحدٌ فقط….. بشيءٍ واحدٍ فقط..
وهو الماء يغمر جنبات عربتنا؛ وينسرب إلى أقدامنا من بين فتحات أبوابها..
ثم يبتلعنا بلعاً..
وهذه الحكاية (الواقعية) لا علاقة لها بالسياسة..
ولكن إن كان هناك من يرى أن ثمة (واقعاً) يماثلها في راهننا فهو حر..
بمعنى أن منا – حسب ظنه – من يحبون البلع..
فيبلعون – من ثم – كل شيء بلعاً؛ ولا يتركون للآخرين حتى الفتات..
فهم بلاَّعون… وبالعون… ويبلعون..
بلعاً!.