22 نوفمبر2022م
- مقدمة:
ما دفعني للكتابة هو الزخم المستمر والمتصاعد في أجهزة الإعلام والمنتديات وورش العمل حول الوضع المتأزم للأمن الغذائي القومي. ومؤخراً الاحتفال بيوم الغذاء العالمي (16 أكتوبر 22) الذي تنظمه وزارة الزراعة بالتعاون مع منظمة الأغذية والزراعة (FAO) وبرنامج الأغذية العالمي (WFP). وهو احتفال سنوى راتب يلقي الضوء على إنتاج الحبوب الغذائية والتحديات التي تواجه الأمن الغذائي. ومن خلاله، وبحسب التحليل الشامل للأمانة الفنية لموقف الأمن الغذائي هذا الموسم، تم التحذير بأن 15 مليون شخص، في السودان(ثلث السكان) يواجهون انعداماً حاداً في الأمن الغذائي، وإمكانية ارتفاع العدد إذا لم تتخذ التدابير العاجلة. وقد صنف السودان من بين بؤر الجوع الساخنة في العالم التي تثير قلقاً شديداً للغاية ينذر بالخطر. وكثيراً ما نسمع عن ترتيبات ستجعل من السودان سلة غذاء العالم أو تواضعاً العربي. وهو قول يصعب فهمه واستيعابه لعدم وجود المؤشرات الجادة لتحقيقه. وذلك لأن الاقتصاد يعاني من عدة مشاكل ودونه كثير من المعوقات التي تهدِّد الأمن الغذائي القومي.
- تعريف الأمن الغذائي:
الأمن الغذائي هو ضمان توفر الغذاء (الحبوب والمواد الغذائية الأساسيه) المقبول كماً ونوعاً في أي مكان وزمان. وذلك لتلبية حاجة المواطنين وخياراتهم الغذائيه وإتاحتها في متناول اليد وباسعار تتناسب مع دخولهم، من أجل حياة صحية ونشطة (الفاو، البنك الدولي ومؤتمر القمة للغذاء). ومؤخراً توسع هذا التعريف بحيث يتضمن مؤشرات نوعية الحياة. ويعني توفر غذاء كافٍ ومتوازن ومغذٍ وآمن ومياة شرب مأمونة وتعليم ابتدائي والرعاية الصحية الاساسية…الخ، وضمان الوصول اليه.
ويتطلب تحقيق الأمن الغذائي توفر عنصرين أساسيين هما توفر الغذاء الأساسي بالكميات والنوعية المطلوبة، والقدرة الشرائية (الدخول) التي تمكن المواطنين من الحصول عليه. ومن المفارقات أن دولاً حققت الاكتفاء الذاتي ولكنها عانت من انعدام الأمن الغذائي بسبب الفقر. ولذلك يمكن للناس أن تجوع حتى الموت في خضم الوفرة عند انهيار القوة الشرائية. ولهذا يجب التمييز بين الاكتفاء الذاتي والأمن الغذائي. لأن التركيز على توفر الغذاء الاجمالي وحده يحوّل الانتباه عن القضايا الأكثر جوهرية، وهي كيف لافراد ومجموعات من الناس الوصول إلى المواد الغذائية.
- انعدام الأمن الغذائي:
في هذه الحالة ينخفض مستوي استهلاك الغذاء إلى ما دون الحد الأدنى المقبول. وإذا تُرك الوضع دون معالجة سينتج عنه الجوع. والجوع ليس مجاعة وإنما حالة شبية بسوء التغذيه بسبب الوجبات غير الكافية التي تؤدى إلى مضاعفات منها عدم القدرة على العمل…الخ. أما المجاعة فهي أسوأ مظاهر انعدام الأمن الغذائي، حيث يتمدد الجوع الحاد محدثاً فقداً قاسياً في الوزن ومعدَّل وفيات عالٍ.
ولفهم حالة انعدام الأمن الغذائي لابد من تحديد مصادر المخاطر الأساسية التي تواجه المجموعات السكانية المختلفة وتؤدي إليه، والخيارات المتاحه للتعامل معها. كما أن تصنيف خصائص ومواقع المجموعات السكانيه التي ينعدم فيها الأمن الغذائي مهم للغاية لتقييم وتقويم السياسات الحالية. وذلك لأن من سماته تأثيره على المجموعات السكانية (مزارعين، رعاة..الخ) بطرق مختلفة. وهنالك نوعان رئيسيان لانعدام الأمن الغذائي هما عابـــــر (مؤقت) على المدى القصير، وينجم غالباً عن مخاطر مؤقتة ومتقلبة ومتذبذبة ومتغيَّرة. ومزمن (مستمر) على المدى الطويل، وله درجة عالية من القابلية للوقوع في الجوع والمجاعة.
ومن أهم أسباب انعدام الأمن الغذائي القومي ما يلي:
- الأزمات الاقتصادية والانهيار المتلاحق والانكماش والتضخم والنمؤ البطئ والبطالة…الخ.
- ضعف الأداء المؤسسي.
- ارتفاع أسعار المواد الغذائية وبالتالي زيادة تكاليف المعيشة.
- توقف دعم المجتمع الدولي والمنظمات الإقليمية (المساعدات الإنسانية المختلفة…الخ).
- ضعف وعدم انتظام التمويل الزراعي في المكان والزمان المحددين.
- ضعف التشريعات واللوائح الخاصة الحفاظ على البيئة واستدامة الموارد الطبيعية (الأراضي والحواكير… وغيرها).
- القيود التشريعية والقانونية الخاصة بتجارة الحبوب المحلية والبينية، بما فيها الترخيص والضرائب والرسوم والجمارك…الخ.
- النزاعات المسلحة والنزوح وتدفق اللاجئين من دول الجوار.
- التغيُّر المناخي (الاحتباس الحراري). وهو ما يعني التغيُّرات الشديدة طويلة المدى في الأحوال الجوية وطبيعة الطقس حيث أصبح أكثر تطرفاً.
- تداعيات الحرب الروسية الأوكرانية التي أدت إلى ارتفاع كبير في أسعار الحبوب الغذائية، وخاصة القمح.
- الفقر
هنالك علاقة قويه ومباشرة بين والفقر والبطالة وانعدام الأمن الغذائي. ويمكن تحديدها من خلال معدل درجة الفقر (حجم السكان تحت خط الفقر).
والفقر وسوء التغذية يتجزران في المجتمعات الهشة والمستضعفة وأينما تتفشي البطالة. وحتى الذين يعملون يفقدون دخولهم نتيجة لارتفاع الأسعار. وبما أن معظم الأسر تنفق ما بين 70-80% من دخولها (الأجور والمرتبات) على الغذاء، فإن أي زيادة قد تتبخر بسبب التضخم.
- تحقيق الأمن الغذائي:
ويُعّدُ المجتمع أمناً غذائياً عندما لايعيش السكان في حالة من الجوع أو الخوف من المجاعة. ومن أجل التحقق من موقف الأمن الغذائي يتم تقدير إنتاج الحبوب الغذائية كل موسم. وذلك بتقدير الإنتاج زائداً المخزون الإضافي ومن ثم خصم ما قد يتم تهريبه. أما مجمل الاحتياجات الغذائيه المطلوب توفرها لكل المواطنين (السكان) فتحسب على أساس الاحتياجات اليوميه للفرد كسعرات حرارية أو بالكمية (كيلو جرام) ومن ثم الوصول إلى مجمل كمية الغذاء المطلوبة. والمعروف أن الأرقام الرسمية لإنتاج الحبوب الغذائية، وخاصة الغلال، تتم من خلال المسوحات والتحاليل السنوية، التي تنفذها وزارة الزراعة لتقيم وتقدير موقف الأمن الغذائي، لا تشمل المخزون الإضافي (تخزين المزارعين والتجار والقطاع الخاص والعام وغيرهما). وبالتالي يصبح الموقف أكثر تشاؤماً. وفي كل الأحوال لا بد من إنشاء مخزون استراتيجي 10-15% من مجمل احتياجات المواطنين (إذ ليس من المعقول تخزين 100% من الاحتياجات الغذائيه). والعوامل المهمة التي تحقق الأمن الغذائى لأي دولة وباختصار تشمل ما يلي:
- الموارد الزراعية والاقتصادية :
يُعّدُ توفر الموارد الزراعية والاقتصادية من العناصر المهمة لتحقيق الأمن الغذائي كما مبين أدناه:
- البلد الذي يمتلك الموارد الزراعية والاقتصادية لا يعاني من مشكلة في أمنه الغذائي.
- البلد الذي يمتلك الموارد الاقتصادية ولا يمتلك الموارد الزراعية يعتمد أمنه الغذائي على الاستيراد. وبالتالي على حالة المناخ السياسي الدولي والتعاون الإقليمي سلباً وإيجاباً.
- البلد الذي يمتلك الموارد الزراعية ويفتقر للموارد الاقتصادية يعاني من مشكلة في أمنه الغذائي (السودان). ولكن عند توفر القدرة المالية والإرادة السياسية يمكن تفعيل الموارد وتوظيفها في خدمة الأمن الغذائي.
- البلد الذي لا يمتلك الموارد الزراعية أو الاقتصادية يعاني من مشكلة حقيقية في أمنه الغذائي.
- دخل الفرد:
وهو العامل المحدد للقوة الشرائية للمستهلك وبغيره لا يمكن الحصول على الغذاء حتى لو توفر. ولهذا يمكن للناس أن تجوع في خضم وفرة الغذاء. ولذلك الدخل الكافي ركناً أساسيًا من من أركان الأمن الغذائي.
- سبل تحقيق الأمن الغذائي:
هنالك العديد من السبل التي تحقق الأمن الغذائي من أهمها:
أ. الاستيراد:
الاعتماد عليه يتطلب توفر العملات الأجنبية والجو السياسى الدولي الإيجابي. وهذا خيار لا يتوفر خاصة في الدول النامية وبالتالي لا يعتمد عليه.
ب.الإغاثة:
تخفف حدة الفجوات والمجاعات. ولكنها تعتمد على عدة عوامل وخاصة السياسية منها. وقد تصبح وسيلة ضغط على القرارت السيادية. كما تتسبب في آثار سلبية على الإنتاج. لأن التركيز على الإغاثة يقود المجتمعات الريفية بعيداً عن الإنتاج الزراعي. وهذا خيار لايعتمد عليه أيضاً.
ج. تخفيف حدة الفقر:
لا يمكن تحقيق الأمن الغذائي دون الوصول إلى السوق. ولذلك يجب الاهتمام بقضايا الفقر ومكافحته لتخفيف حدته. وذلك من خلال الحد من البطالة وتوليد فرص العمل لزيادة الدخول وبالتالي القوة الشرائية.
د. زيادة الإنتاج والإنتاجية:
وهو الخيار الوحيد الذي يمكن الاعتماد عليه لضمان استدامة توفر الغذاء وتحقيق الأمن الغذائي.علماً بأن التذبذب في إنتاج الحبوب قد لا يدل على أي درجة من انعدام الأمن الغذائي، إذا كان الانتاج فوق متوسط الاحتياجات. أما إذا كان متوسط الإنتاج والاحتياجات متساويان فهذا يدل على أن نمو الإنتاج يتطابق مع النمو السكاني. أما إذا كان أقل، فيدل على أن الإنتاج لا يواكب معدلات زيادة السكان وحينها ينعدم الأمن الغذائي.
6.الاستراتجية المتكاملة لتحقيق الأمن الغذائي:
الأمن الغذائي مسألة معقدة ومتعددة الجوانب وحصيلة شبكة متداخلة من العلاقات والتخصصات الاقتصادية والزراعية والهندسية…الخ. وتتقاطع مع العديد من الأنشطة الاقتصادية (إنتاج، تخزين، تصنيع، تسويق…الخ). ولتحقيق الأمن الغذائي لابد من حشد الإرادة السياسية وبذل الجهود والتنسيق المتكامل بين كل القطاعات ذات الصلة. وذلك لتقدير موقفه الحالي لمعرفة القوة والضعف والمشاكل والحلول والممارسات الحالية وتقييمها وتقويمها. ويتم ذلك بإعداد استراتيجية شاملة ومتكاملة ومستدامة، وبمشاريع وبرامج وخطط ذات أهداف محددة وواضحة ومتكاملة. والهدف استنباط مقترحات ومقاربات واقعية لاتخاذ توصيات محددة ومفيدة لجهات الاختصاص وواضعي السياسات ومتخذي القرار لتبنيها كحزمة إصلاح شاملة ومتكاملة. وهذا يعنى إدارة كل المكونات في وقت واحد ((Simultaneously، لأن أي مكوِّن منفرداً لا يؤثر كثيراً في زيادة الإنتاج والإنتاجية. وتقع مسؤلية وضع هذه الاستراتيجية وتنفيذها على وزارة المالية والقطاعات والجهات ذات الصلة. مع التنسيق المتكامل بينهما. وتشمل الاستراتيجية، دون الدخول في تفاصيل، المكونات والمحاور التالية:
أ. المكوِّن الاقتصادي:
- معالجة مشاكل الاقتصاد الكلي (السياسات المالية والنقدية …الخ).
- مراجعة قوانين الاستثمار لجذب المستثمرين وحث الهيئات والمنظمات وصناديق التمويل لتوفير الدعم اللازم.
- خطط التنمية للمناطق المختلفة والاشتراطات البيئية واستدامتها.
- دعم الموارد الطبيعية (المحاصيل وغيرها) ذات الميزات النسبية.
- الإدارة الرشيدة والقوانين والتشريعات واللوائح للاستغلال الأمثل والمستدام للموارد الطبيعية.
- القوانين والتشريعات والوائح الخاصة بفض النزاعات حول الأراضي والموارد الطبيعية الأخرى.
- تطوير سبل كسب العيش والتكيف مع آثار التغير المناخي لمواجهة تداعياته…الخ.
- تعريف وتوصيف خطط وسياسات الاحتفاظ بمخزون استراتيجي/ طوارئ.
ب مكوِّن الإنتاج والإنتاجية:
- تطوير البحث العلمي والتدريب في كافة المجالات لاستنباط حزم تقنية متكاملة تدعم الإنتاج والإنتاجية.
- تطوير نظم نقل التقانا والإرشاد الحديثة وتبنيها (للاستغلال الأمثل للموارد الطبيعية).
- التمويل الزراعي ونظم امداد مدخلات الإتناج ( تقاوى، وقود، مبيدات، أسمدة ومخصبات ومعدات المكننه الحديثة “…الخ)، لكي تصل في الزمان والمكان المطلوبين.
- الدعم الفني والعينى لصغار المزارعين والمجتمعات الريفية لبناء القدرات الإنتاجية.
- نظام الإنذار المبكر وجمع المعلومات وتوقعات الإنتاج والاستهلاك.
ج. مكوِّن التصنيع الزراعي:
- تطوير نظم الصناعات التحويلية (تعظيم عائد الإنتاج).
- تطوير وتحديث نظم المنتجات الجديدة وسلاسل القيمة المضافة.
- تطوير نظم استخدامات الحبوب الغذائية والترويج لها.
ج. مكوِّن التسويق الزراعي:
- السياسات التسعيرية (الأسعار وتركيزها وضبطها).
- تطوير نظم تقانة المعلومات والاتصالات.
- نظم نقل وترحيل الحبوب الغذائية والبُنى التحتية (الطرق الرئيسة والفرعية والسكة حديد والكهرباء …الخ.
- مواصفات الحبوب الغذائية وتدرجها (Grading) والتداول بالوزن عوضاً عن الحجم (الجوال). .
- تشريعات وقوانين ولوائح تجارة الحبوب وضبط حركتها ومقيداتها (الضرائب والرسوم والترخيص والجمارك…الخ).
د. مكوِّن التخزين (تقليل فاقد ما بعد الحصاد):
- تقييم القوة والضعف في أنظمة التخزين الحالية وحصر حجمها ونوعيتها وحالتها الراهنة. لمعرفة الطاقة المتوفرة وما هو متاح.
- خلق بيئة صالحة للاستثمار في المواعين التخزينية المختلفة ( مخازن، صوامع…الخ).
- التدريب ورفع القدرات والوعي في مجال توطين الإدارة المتكاملة لتخزين الحبوب الغذائية ومنتجاتها.
- خاتمة:
يعود الاهتمام بالأمن الغذائي القومي لأسباب إنسانية واقتصادية وسياسية واجتماعية. إذ لا يمكن لأي دولة أن تحافظ على نسيجها الاجتماعي وكرامة ومُثل مواطنيها إذا حرم إنسانها من هذا الحق الأساسي. ولذلك لابد من توفير الغذاء حتى ولو كان ذلك على حساب التنمية الاجتماعية والاقتصادية. والعناصر المفتاحية هي زيادة الإنتاج واستدامته وتخفيف حدة الفقر ليتمكين الناس من الحصول عليه. ولاستدامة الأمن الغذائي لابد من إنشاء مخزون استراتيجي/ طوارئ في مواعين تخزينية صالحة ومواقع مناسبة ولفترات متفاوتة قد تمتد لأكثر من عام. وأن يكون المخزون تحت مظلة الحكومة المركزية إذا أريد له أن يحقق أهدافه. وفي كل الأحوال يقع العبء الأكبر والمسؤولية المتعاظمة على الحكومات الوطنية. وكما هو معلوم فإن الأمن الغذائي والتخزين أمران متلازمان ووجهان لعملة واحدة. وليس هنالك أمن غذائي دون تخزين.
- د. محمد الحسن شاذلي عبد الرحمن
الإدارة المتكاملة لتخزين الحبوب الغذائية ومنتجاتها
B.Sc. (KRT) M.Sc.DIC (London) PhD (Reading – U.K)