22نوفمبر 2022م
بعد سقوط الدولة الأموية، سأل أبو جعفر المنصور أحد حكمائها: ما الذي أسقطكم؟ فقال حكيمها باكياً: «أمور صغار سلمناها لكبار، وأمور كبار سلمناها لصغار، فضعنا بين إفراط وتفريط».
بل وزاد عليها متحسرا فقال: «قربنا العدو طمعاً في كسب وده، وبعدنا الصديق ضامنين ولاءه، فنالنا غدر الأول وخسرنا انتماء الثاني».
الدولة الأموية التي أعقبت الخلافة الراشدة بعد أن تنازل الحسن بن علي بن أبي طالب عن الخلافة لمعاوية بن أبي سفيان والتي استمر الحكم فيها زهاء التسعين عاماً، اتّسعت فيها رقعة الدولة الجغرافية التي شملت بلاد الهند والسند حتى أطراف الصين وبلاد ما وراء نهر جيحون في آسيا الوسطى وحتى شمال أفريقيا تونس والجزائر وشواطئ المحيط الأطلسي، ووصلت الفتوحات للأندلس وبلاد الفرنجة “فرنسا” التي غزاها جيش المسلمين عدة مرات حتى وصل نهر اللوار، على الرغم من القوة العسكرية الباطشة التي كانت تتمتّع بها الدولة في الفترة الأولى، ولكن في الوقت الذي كانت تتسع وتتسع، إلا أنّ هناك أموراً وممارسات أضعفتها وكانت سبباً مباشراً في إسقاطها وانتزاع الحكم منها لينبلج فجر جديد من عهد الخلافة الإسلامية وهو عهد الدولة العباسية الذي انتهى بذات الأسباب، من أهم أسباب سقوطها تغيير طريقة تولي الحكم من الوصية أو البيعة إلى نظام التوريث مخالفين بذلك عهد الخلفاء الراشدين منذ عهد الرسول صلى الله عليه وسلم وحتى آخر خليفة، كذلك نشوب الخلافات والصراعات والتنافس الشديد والحقد والحسد بين بني أمية، وتولي أضعفهم السلطة على حساب الكفاءة، وتدخل زوجات الخلفاء بشكل سافر في شأن الحكم، واهتمامهم وحرصهم على اكتناز المال والذهب وبناء القصور، وإبعاد العناصر غير العربية الفرس والأتراك من الحكم والتنكيل بالخصوم والمعارضين، وانتشار المحسوبية والظلم.
قال حكيم بني أمية: إفراط وتفريط، فماذا يعني والفرق بينهما؟ الإفراط: القيام بأكثر مما يجب، والتسرع. والتفريط: القيام بأقل مما يجب، والتراخي.
في تقديري أن هناك ثمة أوجه شبه بين ما جرى في نهاية عهد الدولة الأموية مع عهد الدولة “القحتية” إذا جاز لنا أن نشبِّه هذا بذاك، والناظر للأوضاع الداخلية عقب ثورة ديسمبر المجيدة نجد أن القوى السياسية السودانية انقسمت بين “إفراط وتفريط” في تعاطيها مع الأزمة السياسية الراهنة بصورة تدعو للانتباه وحتمية العودة لمسار التحول الديمقراطي “قحت” بصفتها قوى فاعلة في المشهد معنية بأنها قوى مفرطة، و”التفريط” يقصد به هنا التقصير وقد قصرت بالفعل في تحقيق شعارات الثورة وتحقيق التحول الديمقراطي والتحول إلى مسارات أخرى أكثر تشدداً تحقيقاً وتلبية لمطالب قوى “خفية” غير منظورة تضمر شراً للسودان وأهله.
بالرغم من قناعة الكثيرين من قوى الحرية والتغيير أن التجربة السابقة أكدت من الصعوبة بمكان العودة للشراكة بينها وبين المكون العسكري أو باستطاعة أن ينفرد حزب أو فئة أو جماعة بالحكم في ظل فترة انتقالية لا يملك فيها أحدٌ تفويضاً كاملاً، وفي ظل هذه الأوضاع الشائكة، ظلت الحرية والتغيير تفرض شروطها بطريقة متعنتة وفيها مزايدة ورفعت من سقف المطالب بتصنيفها لقوى الثورة واستعداء المكون العسكري.
ويظل هناك سؤال محوري، مَن الذي منح الحق لقوى سياسية محددة أن تعطي نفسها امتيازات دون الآخرين؟ أو تعطي نفسها حق التدخل في شؤون يجب أن يكون حقاً مكفولاً للحكومة التنفيذية المنتخبة، وتأكّد بما لا يدع مجالاً للشك أنّ الحديث عن تفكيك نظام الثلاثين من يونيو وإصلاح المنظومة الأمنية وإصلاح الأجهزة القضائية والعدلية بعيداً عن الحديث عن استكمال مطلوبات الفترة الانتقالية عبر انتخاب هياكل السلطة الانتقالية المؤدية إلى إنهاء أزمة الانتقال الديمقراطي المدني كلمة حق أُريد بها باطلٌ ويعني هذا القفز في الظلام، وأعتقد جازماً في ظل هذه الظروف والتعقيدات الماثلة لا بد مما ليس منه بد العودة للوثيقة الدستورية ٢٠١٩ تعديل ٢٠٢١ وتعديلها لتتماشى مع المتغيرات التي نتجت عن قرارات القائد العام في أكتوبر من العام الماضي، والتطورات السياسية اللاحقة التي شهدتها الساحة من مبادرات وحوارات وتفاهمات استعصى معها الحل.
للحديث بقية
والله من وراء القصد وهو يهدي السبيل،،،