إبراهيم أحمد الحسن يكتب: عمر إحساس.. زولي هُوي
(1)
امتشق الندامى فقادته إلى طريق السلامة .. هذا هو عمر المولود في نيالا حي الوادي في يوم (عيد الأم)، لجغرافيا المكان إيقاع ولتأريخ الزمان الف كلمة تقال، فعمر لم يولد في جغرافيا واحد من الاتجاهات الأربعة للوادي الذي يمد جناحيه محبة وحنان شمال وجنوب، شرقاً وغرباً ولكن عمر يولد في حي الوادي وسط، بالضبط في المنتصف فما كان غريباً أن تستقر بوصلة وجدانه في نقطة التعادل في كل أرجاء السودان . عمر وُلد في وادي النماء هذا وكأني بدكتور بادي يعنيه حين قال (الوادي الجانا مترقن / مد جناحو الطايل شرقاً وغرباً/ القبلي بروقو على القلعات يضربن) من هنا جاء عمر متلئ الجمال رسيان وميقن . أما زمان الحب عند عمر فكان متلازمته التي ولد بها عند تاريخ اختاره العالمين أن يكون عيداً للأم في الحادي والعشرين من مارس .
(2)
الهدية لا تهدى ولا تباع ولكن عمر باعها نهاراً جهاراً واشترى بثمنها آلة للعزف ودوزنة الإيقاع، باع عمر الهدية الغالية لأنه (أبصر رؤوس النبت تصارع تحت الترب/ وحتماً ستطلّ بنور الخصب ونور الحب ) باع عمر جهاز الراديو الذي أهداه له والده بمناسبة نجاح مقيم في دار عمر.. دس في أكمامه جنيهات عشرة، ابتاع تذكرة وامتطى قطار الغرب، كما قال محمد المكي إبراهيم “تمطَّى في القضبان / وزغاريد فهناك عريس في الركبان “، اشترى آلات الإيقاع وقفل راجعاً إلى نيالا في قطار الغرب والصبر حيث في الطريق ( الصبر، الصبر، الصبر / الكوخ المائل لا يهوى/ والشجر الذاوى ليس يموت)، انتهت الرحلة وعمر عازف مجيد للإيقاع ،الذي رشح من وجدان مترع بالجمال إلى أنامل تنقرش الإيقاع فلا تملك إلا أن تتمايل طرباً مع إيقاع هاشم صديق الذي وصف به إحساسه ذات يوم بأنه “حاجة زي نقر الأصابع/ لما ترتاح للموسيقى” وارتاح عمر للموسيقى .
(3)
استاذ معتصم في منطقة وسطى من العمر بين تلاميذه والأساتذة أراد للتلميذ عمر أن يغني في حفل وداع دفعته، وكيف السبيل إلى ذلك ودثار عمر تهذيب شديد وحياء بعد جهد جهيد كسر عمر حاجز الخفر واقتحم الغناء بصوت شجئ وطروب فارس لا يشق له غبار ب (أدر الكأس على العشاق صفواً ومدامة) وصدح بها في ذلك الحفل الندامى(أيها الرافل في مجد من الحسن دواماً / ماست الأغصان لما عشقت منك القواما / تتحدى البان ميلاً واعتدالاً وانقساماً / وتفوق البدر حسناً وضياءً و وسامة / يا سقيم اللحظ يا من أورث القلب سقاما / أن في تيهك إرهاب وفي الصد انتقاما) غناها الندامى وأجاد فخرج بها لقباً وكنية فاسموه ( عمر الندامى) ولو تركوا الكنية تمضى لأصبح اسماً على مسمى وقد تمدد (الندامى) في حياة عمر بطول السودان الفسيح وخارجه أيضاً .
(4)
في فترة كان فيها سادة الغناء الشعبي محمد أحمد عوض وكمال ترباس وعبدالوهاب الصادق، عبدالله محمد أبو عبيدة حسن، ومحمود علي الحاج بدأ عمر في اقتحام الغناء الشعبي من مركز شباب نيالا ومعه بعض أصدقاء كورس (يشيلون معه) وردد أغاني أساطين الغناء الشعبي في زمانه وزاد عليها أداء لأغنيات شعبية خاصة به وقام بتلحينها بنفسه . ثم لم يلبث أن دخل الغناء الحديث من فرقة قوامها أيضاً بضع أصدقاء منهم بروف ترنيم في (الترامبيت) وسوناتا في الاكورديون، أحمد عثمان التجاني عود ثم كمان وعمر نفسه كان عازف الباص جيتار ثم مال على العود في الفرقة الموسيقية الرائعة والتي انطلقت من مركز شباب نيالا.
(5)
جاء عمر إلى الخرطوم بانتاج غنائي خاص به، بملكة في التلحين لا تُضاهى، بإيقاع داخلي موزون وبدوزنة موسيقى ورهف (وأحرف موسيقي ودندنة)، جاء بصوت شجي وشفيق ودخل الإذاعة وأجيز الصوت الجميل ذو اللونية الخاصة وبدأ تاريخ الغناء في السودان ببسط صفحة جديدة سطرت بدايات لفن تسيَّد ساحته فنان جديد .وفي بوابة دار الخرطوم جنوب للغناء (منعوه حراسها) طلبوا منه الامتثال إلى شروط دخول الدار التي كان أساطينها الكبار : محمد وردي وسيد خليفة وعثمان حسين، رمضان حسن ورمضان زايد ابراهيم موسى أبا ومصطفى سيد أحمد وعبدالمنعم الخالدي ويوسف الموصلي. وطُلب منه أن يجلس لامتحان إجازة الصوت مع أن تلك التي بيمينه شهادة إجازة من لجنة النصوص و هنا أم درمان تفيد بإجازة صوته.
(6)
جلس عمر لامتحان الدار مع زمرة من مجايليه، فيصل الصحافة الذي غني (مسكين أنا) وصلاح كوستي الذي غنى مرت الأيام وغيرهم من الذين غنوا الحقيبة على نغم هوي يا ليلى هوي، إلا عمر فأنه غنى أغنيته الخاصة (إحساس ) ، ليلتها خرج عمر من دار الخرطوم جنوب يحمل شهادة الإجازة ويحمل لقب (إحساس) يحمله يقيناً لأنه الفنان الذي قدم بقوة إلى الساحة الفنية في السودان . ترك عمر إحساس (الندامى) عند باب الخرطوم جنوب وحمل معه إحساس جميل ونبيل ومتفرد .
(7)
هوايته القراءة وله في ذلك مكتبة كبيرة، ثم السباحة التي تعلمها في البرك والسواني،ومع ذلك كان هو منقذ الراحل المقيم كمال كيلا عندما انزلقت رجله عند حافة حوض السباحة في الجزائر العاصمة ساعة رحلة فنية إليها،غطس كمال ثم طفأ ثم غطس ثم طفأ وكانت الثالثة التي غطس فيها ولم يطفؤ، عمر إحساس كان يعلم أن في البعثة كثير من ( أولاد البحر ) الذين يجيدون السباحة ظاهراً وباطناً، تأخر الآخرين في نجدة غريق، حرك فيه كل نوازع الخير والمرؤة والشهامة فقفز كأي بطل للسباحة إلى المنطقة الغريقة من الحوض بكامل أناقة هندامه ، وما كان يهمه لأن الذي أمامه زميل يغرق مضت لحظات عصيبة طفأ بعدها عمر إحساس وفي معيته الغريق يدفع به إلى حافة الحوض الأنيق عندها هرع الجميع يعومون في البر لانتشاله حيث تم إسعافه ،كانت تلك شهامته عمر إحساس وذلك كان كمال الذي كلما التقاه هتف في وجهه يا منقذي !! شهامة دفعت به إلى فعل كان فرض كفاية إذا قام به أحدهم سقط عن الباقين ولكن لأن لا أحد تقدم ، تقدمت نخوة إحساس لأن المسألة (لا تنتظر ) كما يقول الإعلان الشهير .
(8)
بين ريان وروعة وحفيدات ثلاث، وبين أحمد وأواب وست الكل أُمهم يعيش عمر إحساس حياة أسرية سعيدة وسط الأهل والجيران والزملاء والأصدقاء الكثر وبين كل الأصدقاء يظهر إبراهيم سوناتا صديق الطفولة والعُمر ، وعند إحساس في الحلة الجديدة وفي جبرة وفي اتحاد الفنانين بأم درمان وبدار الخرطوم جنوب ( كل الناس هنا/ كل الناس صحاب/ كل الناس أهل/ والما هُم قراب/ قربهم العمل).. ما ترك عمر إحساس الغناء الأم درماني ولكنه توجه إلى الغناء المحلي فقدمه موروث إيقاعي ونغمي سوداني أصيل بنغم له هوية وإيقاع له لون، لاقى رواجاً كثيراً حتى أن الفنان الجمري قال له إنه يدين لعمر إحساس بفتح الباب على مصرعيه لتقديم الفن المحلي الخاص بمنطقته بعد أن كان أسير أغنيات رمضان حسن .
(10)
كانت أغنية إحساس التي صاغ كلماتها الشاعر كمال مصطفى وهو أقرب الشعراء لإحساس عمر، وأغنية (إحساس) ذاتها هي الثالثة لعمر، إذ أن الأولى كانت (لما تزعل) أخد كلماتها من مجلة الإذاعة والتلفزيون ترنم بها بإحساس عالي( لما تزعل مني ياما /بتطير من الشجرة الحمامة/ يبقى لون النور رمادي/ والشوارع تبقى غادي/ تبقى في عيونا البتهدي/ رعشة الشوق المعدي/لما تزعل مني ياما)، ولأن شاعرها مجهول بالنسبة له لم يتقدم بـ(لما تزعل ) للأجهزة الفنية، وعند عمر لا تهدر الحقوق وتصان العهود، وليس من شيمه أبداً أن (يزعل منه أحد).
(11)
آخر عمل أنجزه عمر إحساس أوبريت طويل مدته 22 دقيقة، من كلمات الشاعر د. عارف تكنة، سيرى النور قريباً وسيحدث ضجة كبرى تقلب موازين الأعمال الفنية . و كثر هم الشعراء الذي تغنى بكلماتهم إحساس منهم التجاني حاج موسى، عالم عباس .د. يحيى حماد فضل الله، جمال حمدون، مدني النخلي، شادية عطا المنان، أزهري محمد علي، إبراهيم الدرديري، محمد يوسف موسى، خالد شقوري وغيرهم من الشعراء .
شريك عمر إحساس في الأغنية المحلية من منطقة دارفور كان هو الشفيف الشاعر د. يحيى حماد فضل الله. عمر إحساس اشتهر بتطيب خاطر الناس وغنى لكافة الفرقاء وكان رسولاً للمحبة والسلام وأن شئتم الدقة عمر إحساس هو زولكم وهو بامتياز (زولي هُويْ).