16 نوفمبر 2022م
(1)
من الثقافات والقناعات المنتشرة في المجتمع السوداني منذ قديم الزمان، أن الفنان ليس كباقي أفراد المجتمع، تلك ليست نظرة فوقية، بل هي نتاج ربط المعايير المُتنوِّعة بعضها بعضاً، حيث إننا كشعب نعتبر أن الفنان من أهم الشخصيات في المجتمع مهما كان مستوى شهرته الفنية، نمنحه اهتماماً أكثر.. وبالمقابل ننتظر منه أكثر.. وليس أدل من ذلك المكانة العالية التي احتلها الفنان الكبير أحمد المصطفى بأدبه وخُلقه الرفيع وغنائيته العذبة .. فهو يحسب له كما عُرف تاريخياً أنه نقل الفنان من وضعية (الصايع) الى مرحلة الأستاذية.. وذلك يؤكد أن تقييم المجتمع السوداني للفنان تقييم مختلف، لأننا نعتبره مختلفاً في طريقة تفكيره وحياته وثقافته وما يمكن أن يقدّمه للمجتمع من إبداعاتٍ خارقة أو حلولٍ لمشكلات مستعصية.
(2)
حينما افترع الراحل مصطفى سيد أحمد مدرسته الغنائية الجديدة .. كان بعض دعاة التقليدية والكلاسيكية ينظرون لتجريبه الحداثي على أنها محاولة لتخريب وجدان المستمع السوداني .. تلك العقلية القاصرة أرادت للوجدان السوداني أن ينكفئ على الغنائية الحسية ذات اللغة المباشرة على شاكلة (في صدرو جوز تفاح) .. راهن مصطفى سيد أحمد وقتها على مفردة تقترب من الهم الإنساني.. مفردة شعرية متجاوزة تحلق في البعيد لتكسر الإطار القديم.
(3)
مفردة مصطفى الغنائية لا تلتزم بالاجراس الشعرية المعتادة .. كان ينظر للمحتوى والمضمون والعمق .. كانت غنائية مصطفى سيد أحمد أنّ الفنان يجب أن يكون هو الأول في التناول المجتمعي، فهو ليس مجرّد شخص يرسم أو يُصوِّر أو ينحت أو يعزف المقطوعات الموسيقية، الفنان عندنا هو مُفكّر بالضرورة، وهو أكثر أهمية من أي مفكّر عادي أيضاً، ذلك أنه يرى التاريخ والحاضر والمستقبل من منظورٍ شديد الخصوصية والغرابة في الوقت نفسه، كما أن مساحة الخيال لديه أكبر، لذا فهو يرى أكثر، ويستطيع فهم ما يراه بشكل أفضل. ان الفنان ليس متساوياً مع باقي أفراد المجتمع في الحقوق والواجبات، فالأعراف الاجتماعية الحديثة تعتبره من أهم المنتجين للمجتمع ليس في مجالات ممارسته للفن فقط، بل من حيث الواجبات الملقاة على عاتقه وفقاً لقدراته التي تفوق المعتاد.
(4)
كل أغنية عند أبو عركي تمثل حالة تأمل وخيال .. خذ أي أغنية وتأمّلها وتفحصها توقف عندها، ستجد نفسك أمام موقف إنساني معقد وصعب التراكيب والتفاسير واقرب مثال لذلك أغنيته الواقعية واحشني:
أبقى باكر لما ترجع .. أنا بحكي ليك عن الحصل
عن بعد المسافة وقربها .. ولمن يفارق زول عيون
غاليات عليهو كتير وبحبها
تجربة .. تجربة خطير جد واجتزتها
ولسه واحشني..
المتأمل لتلك المقاطع الأليفة يجد نفسه في حالة من الاستغراق مع المفردة المشحونة بالعاطفة ومع جملة موسيقية تتصاعد مع تصاعد وتيرة شدة العاطفة .. وأبو عركي تفاعل مع مفردات التجاني حاج موسى في واحشني وكأنّه كتبها ولكن لأن غريزة الشاعر عالية عنده استشعر معاني الجمل والكلمات الخافية ما بين السطور، لذلك جاء اللحن متسقاً مع الكلام ومنح كل مفردة حقها ومستحقها وبالذات مفردة (تجربة) والتي مثلت ذروة الأغنية وأعلى قممها .. لذلك شكل التأليف في منتهى الدرامية والحبكة والسبكة والتصوير العنيف لتلك الحالة الشعورية.
(5)
غياب أبو عركي وغيره من الفنانين أصحاب المشاريع الجادة كان سبباً في ظهور تجارب غنائية باهتة ومسيخة ساهمت في تدمير وتخريب الذوق السوداني بفنانين على شاكلة أحمد البنا وقرقوري والعديد من الأصوات التي ولدت ميتة التي وجدت الساحة الغنائية خالية فانداحت في الجسد مثل السرطان .. ليت أبو عركي يعلم أن توقفه يفتح الباب لمرور تجارب فطيرة مثل التي تزحم الساحة الفنية الآن والتي تمتلئ بكل أنواع الفطريات الغنائية التي شوّهت كثيراً من وجدان المستمع السوداني الذي تعود أن يسمع أغنيات مثل بخاف ـ حكاية عن حبيبتي ـ حلوة عيونك .. كلها كانت أغنيات ساهمت في صياغة وتشكيل وجداننا السّماعي وتربت على مفردة مشبعة بالجمال وجملة موسيقية تطرق على الدواخل بكل دهشة.
(6)
انها رسالة حب لأبو عركي ودعوة لأن لمحبيه ومعجبيه حتى يصدح صوته عبر إذاعة أم درمان أو تلفزيون السودان “كيتاً” في كل الذين لا يريدون له العودة مجدداً لتلك الأجهزة الإعلامية التي سوف يصل صوت عبرها لدارفور والجنوب وكل البراحات التي عطشت لصوته وتحتاجه بأن يستلف لسانها ويحكي عن أوجاعها.