منى أبوزيد تكتب : المدينة الآثمة..!
15 نوفمبر 2022م
“إياك والخلط بين الحركة والفعل”.. آرنست همنغواي..!
عبر ثلاث حلقات من برنامجه التلفزيوني “الوراق” استضاف الأستاذ “غسان علي عثمان” “د. الوليد آدم مادبو” – خبير الحكمانية ومستشار التنمية العالمية – لمناقشة ثلاثة مؤلفات قَيِّمة رفد بها د. الوليد المكتبة السودانية، هي “نفحات الدرت.. بين وطنٍ يتردى وغربةٍ تتبدى”، “المدينة الآثمة.. حديث عن الجنسانية”، و”دارفور المستوطنة الأخيرة.. ريثما يتم الجلاء”. ولأنّ تلك الحلقات الثلاث كانت من أكثر المواد الثقافية المرئية التي استمتعت بمشاهدتها عبر برامج القنوات العربية – على إطلاقها – فقد سعيت حثيثاً إلى قراءة الكتب التي ناقشَتها. عندها صفعت روحي “نفحات الدرت”، بينما أمسكت “المدينة الآثمة” بأكتافي وَهَزّتها هَزّاً ومنحت نظرتي لمصطلحات مطروقة على غرار “الجنس، العنف، والعنصرية” بُعداً جديداً وزاخراً..!
في كتاب “المدينة الآثمة” يتناول د. الوليد، موضوعات شائكة على غرار الحوكمة وقضايا الأسرة وأخرى مُعقّدة على غرار انهيار المؤسسة الزوجية في السودان، بجرأة لغوية كبيرة لكنها موظفة ببراعة لخدمة السياق العلمي، وبسالة ثقافية توثق للحقائق الكامنة خلف الأقنعة. وهذا نهج صادم في الكتابة يضع القارئ أمام حقائق ذاته ومجتمعه عارياً، أو لعله يدعوه إلى التفرج على عُرى الآخر وعُريه هُوَ عندما يأخذ دور الآخر. وهي تعرية مقصودة – على كل حال – لأنها تشد من أزر المعنى وإن كان صادماً..!
المدينة الآثمة بحسب المؤلف هي مدينة مجازية تقودنا من خلال التأمُّل في آثامها إلى التعرُّف على سمات المدينة الفاضلة، ومن خلال ذلك يتتبع هُو العلاقة بين العنف والجنس والعنصرية من خلال المقارنة بين أيام حكم المهدية وأيام حكم الإنقاذ، بهدف إثبات فرضية تشابه الأنظمة الثيوقراطية في مقدراتها على اقتحام الفضاء الخاص للناس. فالفكرة في مجملها تقوم على وجوب استدفاع السياسة أخلاقياً، عوضاً عن استدفاع الأخلاق سياسياً. والجنسانية عند المُؤلِّف هي الإطار الثقافي والاجتماعي الذي تتداخل فيه السلطة ويتداخل فيه العنف مع الجنس، والهدف من ذلك هو حث صناع السياسات للمُضِي قُدُماً في اتجاه تربوي تكويني يحرر الإنسان من أغلال الجسد ويشرف به إلى المراتب العليا، من خلال الاتباع السوي لنظم التربية والتكوين..!
الفصل الخاص بالحوكمة وقضايا الأسرة وانهيار المؤسسة الزوجية – في هذا الكتاب – يتحدّث عن وجوب مُناقشة قضايا الأسرة والزواج على وجهها الأكمل الذي يتعدّى التناول السطحي والمبسط للمسائل الإجرائية، ويقترح إنشاء كلية جامعية تختص مناهجها بشؤون الأسرة، ويحث على تفكيك موضوع الجنسانية كجزءٍ من ملامح التجربة الإنسانية وترقية الوسائط الإعلامية والتعليمية كي تقوم بدورها في إعادة توصيف الشراكة بين الرجل والمرأة، ويدعو إلى عقلنة قضايا المرأة من منظور تنموي إنساني عالمي وإعادة قراءتها من منظور نسوي حقوقي مدني وليس منظورا أخلاقيا يجعل المرأة قرينة العار. ويستعرض بعض الحالات الواقعية التي تضمنتها مراسلات من القراء بعد نشر المؤلف لسلسلة مقالات عن الجنس عند السودانيين..!
والحقيقة أنّ حديثي عن هذا الكتاب يأتي من أوسع أبواب الاحتفاء بكاتبه الذي ينطلق من ضميرٍ حيِّ وحياد منهجي وانضباط أخلاقي في مناقشة قضايا كارثية مثل العنصرية والعنف والجنس في السودان. وهو يأتي – أيضاً – من أوسع أبواب الاحتفاء بهذا النوع من المؤلفات ذات الشجاعة العلمية والجرأة الثقافية التي تُجيد التفريق بين الحركة والفعل، وتَنجح في التمييز بين الإثارة والاستثارة، على النحو الهادف الذي يحتاجه المجتمع، والذي تفتقر إليه المكتبة السودانية..!