14 نوفمبر 2022م
(1)
وأنا مُتوجِّهٌ الى مدينة كسلا الجميلة بأرضها وناسها .. أهداني أستاذي الشاعر الراحل سعد الدين ابراهيم ديوانه (حروف للعزيزة) .. وقبل أن أغوص في تفاصيل الديوان نقرأ معاً الإهداء الذي توّجني به: (أبو مصطفى الغالي .. هذا الديوان سمعته في محبة .. أتمنى أن تقرأه بذات المحبة .. أهديه لك لعشرة الأيام .. للحس الشفيف والجرأة في التناول .. لأنك ولأنك ولأن سراج الدين مصطفى وكفى.. ابنٌ لا يعرف العقوق ولا الرضوخ.. وأولاً وأخيراً التقاء الدواخل.. وصفاء المودة.. هذا لا يكفي ولكنه إهداء عاجل في زمن اللهاث المحموم).
(2)
ذلك هو ما كتبه أستاذي سعد الدين إبراهيم في صدر ديوانه الشعري (حروف للعزيزة).. وهو الشاعر (الضخم) الذي يمتلك ناصية اللغة والمفردة الجديدة والمختلفة.. ولكني لست مثله .. لا أملك ذات اللغة لأكتب عن بعض ما يجيش في الدواخل عن سعد الدين .. فأنا احتاج للغة جديدة واستثنائية لأكتب عنه .. فهو دون غيره يمثل لي الكثير والكثير.. واختصاراً للمشوار والمسافة.. فهو بمقام (والدي) تماماً.
معزة ومودة خاصة تجمعني به .. كتبت عنه كثيراً ومازلت أحس بأن حروفي قاصرة حينما أحاول ترويضها لتحكي عن محبة خاصة أكنها له .. ولكني استعيد بعض كلمات كنت قد سطّرتها وقلت فيها، سعد الدين إبراهيم .. تاريخ طويل من الأغنيات الوسيمة .. فهو رغم قلة أغنياته ولكن كل أغنية تمثل موقفا حياتيا بالغ التعقيد والجمال .. فهو شاعر يكتب من واقع حياته وتفاصيلها.
(3)
سعد الدين كل أغنياته كانت تجارب ذاتيّة لذلك جاءت محتشدة بالصدق الدافق .. يكتب عن حكاياته الخاصة فتصبح هي حكاياتنا .. لأنه يمنحك مفاتيح الدخول للاشتراك معه في ذات الإحساس .. وأغنية مثل العزيزة .. ما زالت حتى الآن هي الرسالة الحميمة لمن نحب .. نكتب حروفها لتعبر عنا .. ويظل سعد الدين إبراهيم واحداً من رُوّاد التجديد الذين كسروا كل قواعد الشعر الغنائي الكلاسيكي .. جاء بمفردته المُغايرة والجديدة .. في زمان كانت تسوده الحسية والمباشرة.
سعد الدين إبراهيم تغنّت له منى الخير وهو لم يزل يافعاً .. فقالوا وقتها عنه بأنه الطفل المعجزة.. وكانت أغنية أبوي هي المؤشر على عبقرية الشاعر سعد الدين إبراهيم .. وكانت هي المفتاح الذي فتح مغاليق الأبواب .. فكتب بعد ذلك أغنيته الفارعة “العزيزة” .. ثم جاءت بعد ذلك أغنيته المتجاوزة “حكاية عن حبيبتي” التي يغنيها الفنان الكبير أبو عركي البخيت.. وهذه الأغنية في نظر الكثيرين من النقاد تعتبر النقلة التجديدية في الأغنية السودانية.. لأنها كنص شعري حفلت بالتجديد المُثير والمغاير وحتى لحنها كان يُوازيها من حيث التّحديث والتجديد في شكل الألحان التي كانت سائدةً في ذلك الزمان.
(4)
الحقيقة التي يجب أن لا نهرب منها أن سعد الدين إبراهيم واحد من رواد التجديد في الأغنية السودانية .. فإذا كان عمر الطيب الدوش قد كسر جدار العادية بأغنيته الكبيرة (الود) ومن بعدها (الحُزن القديم) و(بناديها) .. فإن سعد الدين هو الذي قام بإحداث الانتقال الثاني نحو شعر جديد ومختلف في الأغنية السودانية .. وهذه النقلة الكبرى تتضح في أغنية (حكاية عن حبيبتي) التي يتغنى بها الجميل السادة (أبو عركي البخيت).
مثلت الأغنية فتحاً جديداً في الأغنية السودانية وانحاز لها الكثيرون ومنهم من كتب عنها وقال إنها أغنية المستقبل لأن كل مفردة شعرية أو موسيقية كانت فيها قدرٌ من (الشوف) للزمن الآتي.. ولكن لجنة النصوص التي كانت تضم وقتها الشاعر الكبير ابراهيم العبادي وعبد الباسط سبدرات ومحمد يوسف موسى ومبارك المغربي رفضوا بعض التعابير مثل (أدتها برتكانة) وكان رأي العبادي أن هذا الكلام ليس منطقياً باعتبار أن منقار الحمامة صغير لا يحتمل وزن البرتقالة .. وسبدرات اعترض على مقطع:
دي الأصيلة الزي الشعاع
تدخل رواكيبنا وأوضنا
(5)
وبعد جدل طويل مع اللجنة أقنعته اللجنة بتغيير كلمة (برتكانة) وكتب بدلاً منها كلمة (حنانا).. ذلك الموقف كان يمثل عداءً سافرا لكل الشعراء الشباب الذين يكتبون (الشعر التخيلي) الذي لا ينتمي للمنطق العادي .. وذلك هو حال الشعر يقلب موازين المنطق ليسود منطقه الخاص الذي لا تحكمه أي أسس أو قواعد .. وحينما يتم الحكم على الشعر بمقاييس الواقع يصبح بلا بصيرة أو خيال .. وميزة الشعر أنه يحلق في أعلى الفضاءات بلا أجنحة.
ليس حكاية عن حبيبتي وحدها كانت هي المؤشر الدال على عبقرية سعد الدين .. الذي أطلقوا عليه لقب (الطفل المعجزة) حينما تغنت له منى الخير بأغنية (أبوي) وهو لم يبلغ الـ(19) سنة التي يتغنى لها وردي ويسميها بأنها (عُمر الزهور عمر الغرام عمر المنى) .. ولكنها كانت لسعد الدين عمر الفتوحات الكبيرة وهي الأغنية الدالة على ميلاد شاعر سيحدث نقلة وطفرة جديدة .. وصدقت التوقعات لاحقاً بعد أن كتب (حكاية عن حبيبتي) و(حروف للعزيزة).