تدهور الاقتصاد السوداني .. دراسة الأزمة واتجاهات الحلول!!
الحلقة الأولى
مقدمة
في ظل الحراك الذي تشهده البلاد وتجاذبات القوى السياسية السودانية وصراعاتها حول السلطة وبحثها عن آليات وبدائل لملء الفراغ الذي خلفه النظام السابق، ونقاط اتفاق لعلاج الأزمات الاقتصادية وتصاعدها، وتراخي بعض مؤسسات الدولة المعنية بضبط وتتبع عملية التطوير الاقتصادي، وزيادة مخاوف الناس من المصير المجهول للاقتصاد السوداني، في ظل هذا الوضع الحالك والرؤية القاتمة كان المجلس العسكري الانتقالي ينظر من زاوية أخرى إلى ضرورة إجراء عملية الإصلاحات العامة بالدولة، ووضع أولوية للإصلاح الاقتصادي بمفاهيم تبدأ بتتبع ومحاربة الفساد ووضع أولويات للاستثمارات ومشاريع البنى التحتية وتطوير النظام الجمركي وعائداته وتقوية النظام المصرفي وسيادة حكم القانون.
(الصيحة) تحصلت حصريًا على ورقة “الاتجاهات الرئيسية للإصلاحات الاقتصادية وسيادة العدالة والقانون وأسباب الأزمة الاقتصادية وآفاق الحلول الجذرية لها”، وسننشرها في حلقات تباعاً لمزيد من التحليل والمراجعة.
الخرطوم: رشا التوم
في محاولة للكشف عن المشكلات الحقيقية التي قعدت بالاقتصاد السوداني، وأدت إلى تدهوره بصورة مريعة خلال فترة نظام الحكم البائد، وقفنا في هذه السانحة على وجهات نظر اقتصادية مختلفة للبحث والتحليل ووضع خارطة طريق للمستقبل تفادياً للأخطاء القاتلة والجرائم المالية والتعدي على المال العام والتي وجهت ضد الاقتصاد خلال العقود الثلاثة الماضية.
وبعد تحليل الوضع الاقتصادي الحالي، يتضح أنه على مدى السنوات القليلة الماضية، قامت السلطات السابقة بإخفاء الحجم الحقيقي للمشاكل الاقتصادية في البلاد. وبدلاً من اتخاذ قرارات منظمة تتطلب الكثير من الجهد، استخدمت السلطات في معظم الأحيان أسهل الطرق لحل المشكلة والتي في الحقيقة زادت الطين بلة بدلاً من إنهاء الأزمة التي جعلت النظام السابق امام تحدٍّ كبير في الوفاء بالفترة الزمنية التي التزم بها، ومن ثم باءت بالفشل، وبما أن المجلس العسكري الانتقالي أمسك بمقاليد الحكم في الفترة الانتقالية القادمة، وسعياً لرسم خارطة طريق واضحة تعينه في تحقيق مبتغاه، والنأي عن ذات الطريق السابق، وتحديد فترات زمنية للتخلص من هذه التحديات باتخاذ قرارات اقتصادية لمواجه المشكلات التي تقف في طريقه لتحقيق أول المبادئ (معاش الناس).
أبرز التحديات
تتمثل أهم المشكلات الاقتصادية الناجمة عن فترة النظام السابق في ارتفاع سعر صرف العملات الأجنبية مقابل العملة الوطنية، وشح السيولة وأزمة الوقود وارتفاع معدلات التضخم والأسعار بالأسواق.
معضلة الدولار
تعتبر قضية ارتفاع الدولار في السوق السوداني معضلة رئيسية وإشكالية بالغة التعقيد، وهي قضية البلاد الاقتصادية الأولى، والدولار تسبب في أزمة الوقود والنقود والخبز وارتفاع سعره من 5 جنيهات الى ما يقارب الـ 68 جنيهاً حتى يوم أمس، ونشطت التجارة غير المشروعة في سوق العملات، وانتعاش السوق الموازي على حساب السوق الرسمي، وخلقِ كثيرٍ من الممارسات الخاطئة والتي شوهت الاقتصاد وأثرت على معاش الناس وأصبح المواطن والحكومة في رحلة البحث عن الدولار.
التهريب سمة العصر
انتشرت ظاهرة تهريب السلع الاستراتيجية والغذائية مثل الوقود والدقيق والذهب، والتي عجزت الحكومة السابقة عن القضاء عليها، فوقف نزيف التهريب بشكل نهائي وسريع في الذهب الذي أصبح بديلاً للبترول بعد فقدانه عقب انفصال الجنوب، يمثل تحدياً ىخر، فالسودان ينتج ٢٠٠ طن من الذهب، بحسب دراسات أجريت فترة سابقة، والمعلن فعلياً في حدود 100 طن، بينما الذي يدخل خزينة الدولة كعائد من حصيلة الصادر للذهب ٢٨ طناً مع العلم بأن قيمة المئتي طن في السوق تعادل ٨ مليارات دولار نفس رقم احتياج الدولة من الدولار، فحال استطاع المجلس الانتقالي الجديد محاربة التهريب، فسوف ترتفع العائدات لتوفير الدولار الذي تحتاجه الدولة والمواطن.
الميزان التجاري
يقدر عجز الميزان التجاري بحوالي ٦ مليارات دولار نتيجة طبيعية خلفتها الفجوة الكبيرة بين واردات البلاد وصادراتها حيث تصدر البلاد 6 من إجمالي ٩٩ سلعة، مما يؤكد أن العجز التجاري الكبير في ميزان التبادل التجاري يمثل تحدياً صعباً، إذ أن حجم الدعم في ظل انهيار الجنيه أمام الدولار بات أكبر، وهذا يعني صعوبة توفير مبلغ الدعم من موارد محلية، بينما تحول الظروف السياسية الراهنة دون اتخاذ قرارات إصلاحية.
دقيق الخبز
بالعودة إلى الوراء قليلاً، نجد أن مشكلة الدقيق نشأت في العام٢٠١٦م، مما يعني وجود عبء كبير على ميزانية الدولة في شراء القمح للمخزون الإستراتيجي مع بقاء استيراد القمح من الخارج مما يعني مضاعفة الصرف وهذا تحدٍّ كبير للمجلس العسكري.
شح السيولة
والثابت أن معضلة شح السيولة أرهقت الحكومة السابقة، وعجزت عن حلها، وجنحت نحو طباعة النقود أي أنهم طبعوا أموالاً ليس لها مقابل من الاحتياطي بالبنك المركزي مع الحفاظ على مستوى عال من الإنفاق الحكومي والتي كان حجمها 50 ترليون جنيه بحسب تصريحات سابقة، بجانب عدم توفر ضمانات كافية لتوفير السيولة بالمصارف.
ويعود السبب الرئيس فيها إلى السياسات الخاطئة من بنك السودان وما ترتب عليها من تعاملات ربوية في أغلب قطاعات الاقتصاد السوداني وتعد من أسوأ المشكلات التي واجهت اقتصاد البلاد.
والشاهد أن التجربة الدولية تبين أن هذا النهج قد أدى بالفعل إلى الانهيار الاقتصادي بالبلدان الإفريقية.
النفط.. الرهان الخاسر
الحكومة السابقة، قامت باتخاذ العقوبات الاقتصادية والتراجع في عائدات النفط بعد انفصال جنوب السودان كمبرر للوضع الاقتصادي، وهو أمر غير صحيح، ولكن لا يلغي أن هناك تأثيراً سلبياً كبيراً لهذه العوامل على مستوى التنمية الاقتصادية.
القطاع الصناعي
ظل كثيرون ينادون بضرورة إزالة التشوهات الاقتصادية الهيكلية والإدارية التي تعوق الصناعة المحلية التي تسببت في إغلاق أكثر من 40% من المصانع عن الإنتاج، وعليه توقف عدد كبير من المصانع عن العمل بسبب ارتفاع تكلفة الإنتاج وعدم المنافسة الداخلية.
شبح التضخم
ارتفعت معدلات التضخم بدرجة كبيرة أرهقت المواطن، وجعلت القوة الشرائية للنقود تقل وأصبح أكثر من 60% من الشعب السوداني تحت خط الفقر بالمقياس العالمي دولار وربع الدولار في اليوم، بما يعادل 35 دولاراً في الشهر، وكان طبع العملات غير المُقابَل باحتياطي للعملة المحلية من أهم العوامل في نمو التضخم، حيث وصل معدل التضخم إلى ٧٢.٩% في العام ٢٠١٨ (أحد أعلى المعدلات عالمياً).
وفي محاولة للحكومة السودانية للسيطرة على معدل التضخم، قامت بمنع عملاء البنوك من سحب السيولة. وأدت هذه الخطوة إلى إضعاف ثقة المواطنين في النظام المصرفي، وأصبحت الدافع لنشوء السوق “الأسود” للسيولة. فالمبالغ التي تسحب من الحسابات المصرفية لا تتم إعادة تحويلها إلى النظام المصرفي، بل يتم استعمالها في مضاربات السوق الأسود. والسلع والخدمات التي لا يتم محاسبتها نقداً تكون أغلى بـ ١٠ إلى ٢٠% من سعرها نقداً، مما أدى إلى نشوء طبقة جديدة من الوسطاء مقدمي خدمات سحب السيولة من الحسابات البنكية.
وعليه، فالمجلس منوط به المضي نحو مراجعة الرسوم والضرائب المفروضة على على السلع لتوفير الخدمات المدعومة للمواطنين.
محاربة الفقر
تم إعداد وثيقة قومية لاستراتيجية خفض الفقر، لفترة خمس سنوات اعتباراً من العام الماضي، وعليه فبإمكان المجلس الانتقالي أن يعيد النظر في مخرجات الوثيقة أو استبدالها وإجراء دراسات مستفيضة في هذا الشأن لمعرفة حجم الفقر بأرقام واقعية واتباع أنجع السبل لتخفيف الفقر على الشرائح الضعيفة في المجتمع السوداني كافة، وتوفير الدعم الاجتماعي والضمانات الاجتماعية بصور شتى.
تحديات مستقبلية
من أهم المتطلبات المرجوة من رئاسة الجمهورية والخطة الإستراتيجية متمثلة في مضاعفة الإنتاج والإنتاجية وتوطين الصناعة وقضية استحداث التقنية الزراعية للتمكين من الزراعة بتكلفة أقل.
ويمضي رأي اقتصادي آخر بأن أحد أهم الأسباب للأزمة الاقتصادية الراهنة الكفاءة المنخفضة على مستوى إدارة الدولة وعجز الموازنة العامة للدولة على المدى الطويل وعدم الكفاءة والإنفاق المبالغ به في بعض المصروفات الحكومية إضافة إلى انخفاض الإيرادات الحكومية وعدم كفايتها (انتشار ممارسة التهرب الضريبي من قبل دافعي الضرائب).
وتعذر الوصول لسوق القروض الأجنبية واستفادة السوق المحلي من القروض الحكومية لا يسمح بتغطية عجز الموازنة بالمبالغ المطلوبة بطرق غير تضخمية. ولا ننسى المديونية الكبيرة للدولة مع استمرار وجودها في قائمة الدول الراعية للإرهاب والذي لا يترك مجالاً سوى الاعتماد على الموارد المحلية والمساعدة المحدودة من الدول الشريكة.
بجانب عدم تغطية العجز التجاري بأي من بنود حساب العمليات الجارية هو السبب الرئيسي لشح العملة الأجنبية في الدولة، التي تعد من الأسباب الرئيسية للوضع الراهن.
تدني الإنتاج الصناعي
وفي دراسة أجراها الخبير الاقتصادي د. عبد الله الرمادي، كشفت عن توقف 80 % من المصانع عن العمل بسبب السياسات الخاطئة وتجفيف السيولة، ويواجه القطاع تهالك آلياته ومعداته وأساليب الإنتاج القديمة، وتدني مستويات الجودة، ويعد مستوى التنمية في قطاع الصناعة التحويلية غير كافٍ وذلك نتيجة لانخفاض القيمة المضافة لسلع الصادر مع ارتفاع مستوى التهريب بما في ذلك تهريب الذهب.
قطاع النقل
وقالت ذات الدراسة أن القطاع يواجه مشكلات تعوقه عن القدرة على المنافسة العالمية لتخلف أوعية وأساليب النقل والسكة، حديد أصابها انهيار تام واستبدلت بالشاحنات، رغم أن السكة الحديد أقل تكلفة مالية في ترحيل البضائع.
القطاع السياحي
وأكد الرمادي أن القطاع السياحي يعاني من ضعف شديد وتدنٍّ كبير في البنى التحتية لا سيما في الأقاليم ويفتقر إلى وسائط النقل المريحة والحديثة، وشركات السياحة والتسويق، وحال أعيدت صياغة متطلباته سيكون مرتعاً خصباً للمستثمرين من الخارج.
روشتة اقتصادية
ولكي نضع خارطة طريق محددة المعالم للسير عليها مستقبلاً لإصلاح اقتصادي شامل، يرى الرمادي أن وضع الاقتصاد السوداني المنهك من الحروب والمستنزف من الترهل الأداري والتغول السياسي والمنعدم الكفاءة في كافة القطاعات والمناحيوالذي أجهده الفساد، لا يمكن أن يكون أهلاً لتحقيق معدلات النمو التي يطمح لها الجميع إلا في حالة واحدة، وهي إحداث ثورة في جميع مناحي الاقتصاد تنفض عنه التراخي والتسيب وتثبت في أوصاله نهضة جامعة تجعله أهلاً للطموحات التي تتناسب مع الإمكانيات الهائله للبلاد، مطالباً بخفض عدد الوزارات، وأن لا تزيد عن 20 وزارة والاستغناء عن وزراء الدولة وإعادة هيكلة الخدمة المدنية، وإلغاء الإعفاءات وعدم فرض ضرائب على الاستهلاك مع التوسع في الضرائب المباشرة على الشرائح العليا مع الحرص على أن تكون أفقية بتوسعة المظلة الضريبية، منادياً بإلحاح بإلغاء العمل بسياسة التحرير الاقتصادي والتي أضرت بالاقتصاد كثيراً على حد قوله وإعادة هيكلة نظام الحكم المترهل في الولايات والمعتمديات، ووقف التوسع في المباني الحكومية، واجتثاث الفساد واسترداد المال العام المنهوب من قبل النظام السابق، ووضع خطة للارتقاء بالاقتصاد السوداني وصولاً لمرتبة متقدمة ضمن الاقتصاديات العالمية.
رسم معالم الطريق
لذا التغلب على الأزمة الاقتصادية والمضي قدماً نحو النمو الاقتصادي يتطلب وضع برنامج إصلاحات على نظام الدولة كله، وستكون بعض القرارات القسرية مكروهة وتؤثر على قطاعات واسعة من المجتمع السوداني.
ومن الضروري تنفيذ برنامج الإصلاحات في المجالات الرئيسية بالتوافق مع مكونات المجتمع السوداني كافة والأحزاب السياسية، ويتبع ذلك حملات إعلامية واسعة النطاق بغرض التوعية لعامة الشعب والمختصين في الشأن الاقتصادي، والأزمات الاقتصادية لأن مصلحة الدولة أن توحد كل المعارف والخبرات والتجارب العالمية لإصلاح الاقتصاد.