المصير الذي حاق بالدلال..!

“نحن نواجه اليوم أخطر تَبعات إنقاذ رقابنا بالقوة، وتحرير اقتصادنا بالضربةالقاضية” .. الكاتبة ..!

“ألو .. السلام عليكم .. منى .. أنت حنَّانة” ..؟!

“وعليكم السلام .. نعم .. لا” ..!

هكذا، بدأتُ صباحي بمكالمة هاتفية، في تمام السابعة صباحاً، من رقم مجهول، قالت صاحبته – ذات الصوت الذي يشبه الطنين – إن اسمي ورقمي مسجلان في هاتفها المحمول بلقب “منى حِنَّة”. مسحت جفنيَّ لإزالة بقايا النوم وأخبرتها بصوتٍ ناعس بأنني لست كذلك. لكنها – فيما بدا لي – كانت مشغولة بإيجاد حل لمعضلة قَضَّت مضجعها، وحرضتها على مهاتفة الناس في صباح الرحمن ..!

دون أن تفكر في الاعتذار عن إزعاجي، عاجلتني ببعص الأسئلة عن مواعيد العمل في “مراكز تجميل” منطقة المعمورة وما جاورها، وكأنني أتقاضى منها راتباً شهرياً عن هذه الخدمة. وكنت قد تذكرت في تلك اللحظة المفصلية من الصباح مركزاً للتجميل يقع في شارع المشتل، يفتح أبوابه باكراً، فنصحتها به، لكنها رفضت اقتراحي بجفاء، وهي تخبرني – في ضجر – بأن شارع المشتل بعيد، وهي تريد مكاناً قريباً، لأنه لا وقت لديها، ولأنها تستعد لحضور مناسبة نهاريَّة. انتهت المحادثة ولسان حالي “وأنا مالي”. ثم بقيت في ذاكرتي نبرات الدلع في حديثها وطريقتها – غير الآدميَّة – في مط الكلمات، وشَنق حروف العِلَّة، وتقطيع الأفعال ..!

مع فنجان قهوتي، تذكرت “صنفاً مشابهاً، كنت قد التقيت به في محل شهير لبيع كرات “الآيس كريم”. حينما بدأت في طلب عدد كبير من الكرات المثلجة، توطئةً لحفظه في” الفريزر”، لمحت طفلاً يرمق تلال “الأيس كريم” في نفاذ صبر، فخاطبت أمه الشابة قائلةً إن بإمكان الطفل أن يأخذ دوري حتى لا يمل الانتظار. انشغلت بمنح الطفل اللطيف أوسع ابتساماتي قبل أن أنتبه لصوت الأم – الذي يشبه نغمات التنبيه في أجهزة الموبايل– وهي تمط الحروف طالبةً كرتين لطفلها، قبل أن تمعن في تقطيع الأفعال وشنق حروف العلَّة، وهي تطلب المزيد والمزيد من كرات “الآيس كريم”، دون أن تتجشم عناء توجيه كلمة شكر. وهكذا، ظللت صامتةً أرمقها في بلاهة، وأنا أتهرب من نظرات الشماتة في عيني زوجي، قبل أن تحمل أكياسها وتغادر، وهي ترمقني بنظرةٍ جانبية، وكأنها تعاقبني على فعلةٍ خرقاء، قوامها اللطف والذوق ..!

مع كوب الشاي الذي أعقب فنجان القهوة تذكرت – أيضاً – تلك الأم الشابة حديثة العهد بالأمومة، والتي كانت أمها الستينية جارة لي. وكيف أن قدومي للتهنئة كان قد تزامن من خروج باقة من النساء المتأنقات. وما أن استويت جالسةً على الكرسي، حتى تعالت شهقات “الأم الصغيرة” وأخذت تمط الكلمات، وتشنق حروف العلَّة، وهي تخاطب أمها بنهنهة غير مفهومة، على طريقة الأطفال عندما يغلبهم البكاء!. التفت نحو “الأم الكبيرة” مستفسرةً، فضحكت وهي تخبرني بأن “ونسة” أولئك النسوة عن أوجاع الولادة وآلام المخاض قد أعادت إلى ذهن ابنتها تلك اللحظات العصيبة، فلم تتمالك أعصابها وانهارت بالبكاء، وهي تطلب من أمها أن يتم حذف أي “ونسة” بهذا الخصوص من كل جلسات التهنئة، مستقبلاً ..!

فيا ليت شعري، وياللهول!. ومن عجبٍ أن هذه “الأصناف” من أمهات اليوم هنَّ الامتداد المتنامي لجيل الأمهات، والخالات، والعمات، الرائع، الذي بات مهدداً بالانقراض، بعد أن زحفت عليه عوامل التعرية العصرية، وبعد أن ساهم ذات الجيل الأكبر في إفساده، بإصرار الأمهات على تدليل بناتهن – كتعويض ربما عن الدلال الذي لم يحظين به في طفولتهن – والنتيجة هي انحسار معدلات النساء اللاتي يجدن فنون الطهي والحياكة، ويفهمن في الأصول، ويحرصن على إحياء التقاليد والعادات الحميدة ..!

يحزنني جداً أن تلك الكائنات الرائعة المليئة بالإخلاص والكبرياء والإنسانية قد باتت اليوم مهددة بالانقراض. تلك الكائنات التي تعرف تماماً ما يجب أن يقال، وما ينبغي أن يفعل في كل موقف، مفاجئاً كان أم روتينياً، كرنفالياً كان أم مأساوياً. تلك الكائنات الرحيمة، الودودة، المكتنزة، التي تجيد “نضافة الكمونية، و” تسبيك الدمعة”، و”تظبيط الكوارع، بذات القدر الذي تجيد به اختيار “الطلح” الجيد و”الشاف” الجيد، وصناعة العطور البلدية، والمشاركة في صنع ولائم الأفراح والأتراح مع الجارات والصديقات، وتوجيه “صرفة الصندوق النبيلة” على النحو الهادف، البناء، الذي يقيل عثرات الأزواج ويصلح عجز الميزانية ..!

يحزنني جداً أن يحل محلهن جيل الأمهات العصريات، النحيفات كفزاعات الطيور، الأنانيات كبخلاء الجاحظ، السطحيات كأغلفة الهدايا، المستاءات من كل شيء، والراغبات في الحصول على كل شيء دونما أي كفاح، بل دونما جهد يذكر..!

جيل الأمهات الجديدات، اللاتي لا يجدن الحديث، أو الخبيز، أو الطهي، ولا توفير الأموال، ولا “تمييز الحال”. واللاتي لا يقمن وزناً لفنون التواصل، ولا يفهمن في الأصول، ولا يجبرن الخواطر ..!

منى أبوزيد

[email protected]

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى