دعت قوى إعلان الحرية والتغيير في نهج مُخالفٍ لأية شراكة أو تفاهم إلى ما تُسمّيه مليونية طرد الدعم السريع من الخرطوم، وهي فكرة تنطوي على توجُّه بغيض ورائحة كريهة لا تليق بمن يعملون في مضمار العمل السياسي، حيث تبدو الفكرة نفسها سخيفة بإشاراتها المُنتِنة بأن للدعم السريع مكاناً آخر ليس هو بالطبع الخرطوم ولا محيطها، كأن أرض السودان لا تسعها ولا تنتمي إليها، وليس المقصود قطعاً هو الإقرار بأنها قوات عسكرية ينبغي مكان عملها ونشاطها خارج المدن، ووجودها الآن فرضته ظروف وقتما انتفت غادَرت وأعادت انتشارها خارج المدن، لكن المقصود قولاً وفعلاً هو ربط الدعم السريع بجغرافيا مُحدّدة ومناطقيات مُعيّنة وعِرقيّات وألوان وقبائل، وتلك هي الطّامُة الكبرى التي انزلقت إليها بعضُ النُّخَب السياسية التي تُريد تفسير الواقع السوداني على أساس الولاءات الدّنيا والأطر الضيقة والانتماءات السّفلى.
في كل تاريخنا الوطني، ظلت القوات النظامية موجودة داخل المدن، مقراتها ونشاطها وتمركُزاتها ووظائفها، فالشرطة وقوى الأمن مكانها الطبيعي هو المدن والأحياء نظراً لطبيعة عملها، ولم يحتج يوماً عليها أحد، والقوات المسلحة مقرّاتها وقيادتها العامة في قلب الخرطوم، وقيادات الفرق العسكرية في كثير من مُدن السودان لم تُغادر أو تبتعد من أواسط هذه المدن، تلتحم بها وتتلاصَق تلاصُق اللحم بالعظم، ولم يحتج عليها أحد، وكل التحوّلات السياسية والانقلابات والمواجهات ومواجَهة أعمال الشغب والتظاهُرات وتدخّل القوات النظامية فيها في لُبِّ العاصمة والحواضر المختلفة، وازدحَم التراثُ الأدبي والغنائي الذي يُمجّد الثورات السابقة والشهداء بِمروِيَّات وإشارات تُشير إلى أدوار إيجابية وسالبة للقوات النظامية تضعها في مصاف المدح أو مداس القدح بسبب تواجُدها في المدن، وما قامت به دون الإشارة على الإطلاق إلى أنها غير مرغوبٍ فيها، ولا ينبغي لها أن تتواجَد حيث هي..
لماذا إذن الهجوم على الدعم السريع، وهي قوات في غاية الانضباط يشيد بها العدوُّ قبل الصديق، لا تقترف جُرماً يشينُها، ولا جريرة تضعها في مواجهة نيران المجموعات السياسية التي تدعو لإخراجها خارج الخرطوم؟ السبب الرئيس ليس الأكاذيب المُدَّعاة حول تجاوُزات ارتكبتها هذه القوات، لكن السبب الرئيس وراء كل هذه الحملة الشعواء أن وجود قوات الدعم السريع داخل الخرطوم أفشل مُخطَّطات القوى اليسارية والنشطاء المُرتبِطين بالخارج، الذين كانوا سيحوِّلون الخرطوم إلى بُركان لاهبٍ من المواجَهات وشلالات دم، وهم يسعون إلى تفجير الأوضاع ليصلوا إلى السلطة فوق الرقاب والأشلاء، هذه الأحزاب الدموية التي تعشِق رائحة ولون ومنظر الدماء القانية، كانت تُريد التغيير حريقاً يقضي على الأخضر واليابس حتى يخلو لها وجه الأرض المحروقة، لتُقيم عليه سودانَها الجديد الذي تُريده فوق الجماجم والجثامين وألوية النار والحريق.
قوات الدعم السريع باعترافهم هم قبل الآخرين، هي التي أحدثت مع القوات المسلحة والقوات النظامية الأخرى التغيير الذي تمَّ، ولولاها لما ذهب النظام السابق، وكانوا يقولون ويهتفون لهذه القوات ويُعلّقون صور قائدها فوق المنصات والطرقات وفي مداخل أرض الاعتصام أمام القيادة العامة، كانوا يغنون له ولها ويتغزّلون فيها، وتبارَت قيادات الحرية والتغيير وأبواق الحزب الشيوعي وكنداكاته في تمجيد هذه القوات وقائدها، فما الذي حدث حتى تحوّل المُنقذ إلى مُجرم؟ والبطل الفارس إلى سفّاك دماء..؟
نعرف لماذا هذه الحملة ضد هذه القوات، للأسف ستزيد مثل هذه الحملات الجائرة والدعوات الماكِرة والخُبث السّافر إلى وبال على دُعاة هذه الروح النتنة، فبدلاً من أن تتحوّل القوى اليسارية وخاصة الشيوعيين إلى مجموعات حداثية تدعو إلى المدنية بوعي، وإلى نبذ العرقيات والعنصريات، تنغمس الأحزاب اليسارية وخاصة الشيوعيين والنشطاء في بِرَك التخّلف الآسنة، يريدون الوصول إلى أهدافهم السياسية عبر إثارة الفتن والضغائن والأحقاد الاجتماعية التي هي الأخطر على السودان والسودانيين من أي خطر آخر، والتذرُّع بِحِجَج واهيةٍ حول جرائم مُلفّقة مُدّعاة بأن الدعم السريع قد ارتكبتها دون أن يُثبِت ذلك تحقيق أو تدعمه شواهد بيّنة لهو أس البلاء في التعاطي مع هذه القضية التي تلعب عليها أجهزة إعلام خارجية وقنوات فضائية تعمل على تلوين الأخبار ونشر الأكاذيب.
ما تقوم به قوات الدعم السريع ليس هو العمل العسكري فقط، ولا مساعدة القوات النظامية الأخرى لضبط الأمن وتأمين حياة المواطنين، تعمل هذه القوات على توفير الخدمات، والخدمات الاجتماعية، وتشييد المدارس والطرق وتعبيدها وحفر الآبار وتوفير مياه الشرب ودعم مرافق التعليم وزيادة الدخل القومي ومحاربة تخريب الاقتصاد بحربها الضروس على التهريب والمهربين، هذا غير اقتطاع عائدات جنودها ومرتّباتهم من أجل توفير الوقود والدقيق والخبز .
لهذا كله، يجب الحذر من تنامي الدعوات التي تفرّق السودانيين ولا تجمعهم، ومن يعزف على وتر الضغينة وإثارة الفتنة، سيكون أول من يحترِق بنارها، فالحزب الشيوعي ومن شايَعه يلعبون بالنار، وهذه لُعبة خطرة للغاية لن تكون بعدها إلا الكارثُة الماحِقة الساحقة على الجميع، فلنحذر من هذه الدعوات.. ولتمُت في مهدِها قبل أن تَستفحِل… من يُمهّد بالأخبار الكاذبة والأنباء المُضلِّلة لليوم المشئوم عليه وزر عظيم، الله وحده يتلطُّف بالسودان من شُرورِه…