منازل تؤجَّر للمتسوِّلين وكل عشرة أشخاص بمنزل واحد
كل أربعة أطفال لديهم مراقب يجمع الأموال على رأس كل ساعتين
زوج وزوجته يديرون مجموعة من المتسوِّلين تتكوَّن من (50) فرداً
أمبدة وجنوب الحزام أبرز مرتكزات مجموعات التسوُّل
تحقيق: أم بلة النور 6 نوفمبر 2022م
ظاهرة التسوُّل هي قديمة جداً، حيث كانت بين فئة محدَّدة وهي كبار السن من الأشخاص ذوي الإعاقة، وكانت الحاجة حقيقية، إلا أنه وبعد تطور وسائل الجريمة، وتدهور الوضع الاقتصادي أصبح التسوُّل جريمة منظمة تديرها عصابات، وتتكوَّن من عدد من الأعضاء والأمناء.
والمتتبع للتسوُّل في السودان يجد أن أغلبه مهنة، والممتهنون له معظمهم من دول الجوار الذين يعتبرون أن السودان سوق واعد للتسوُّل ويمكنهم أن يكسبوا منه كثيراً من الأموال حسب إفادة أحدهم تحدث إليَّ ..
وأضاف آخر أن السودانيين عاطفيون وكرماء ويحرصون على مساعدة الفقراء ولهذا لا يترددون في الدفع لهم.
لمعرفة خبايا التسوُّل في السودان قمت بالدخول إلى “أوكارهم” واستعنت بمعارف للحديث معهم وخرجت بتفاصيل دقيقة تطالعونها في سياق التحقيق التالي:
وسطاء المهنة
ما قادني للبحث عن تنظيم عمليات التسوُّل، أولئك الأطفال الذين يتجوَّلون، داخل الأسواق وأمام المشافي ومؤسسات التعليم العالي، كيف يصل هؤلاء الأطفال وكيف يعودون لمنازلهم، وبعد أن تشبثت بي إحدى الفتيات الصغيرات حاولت جاهدة التخلص منها، إلا أن الحس الصحفي بدا يعمل.
وحاولت جاهدة استخراج معلومات إلا أنها كانت أكثر حرصاً مني لعدم معرفتها باللغة العربية، فضلاً عن نظرتها المتكرِّرة لاتجاه مسجد جامعة السودان، مما أكد وجود من يراقبها، الأمر الذي قد بعث في روحها الخوف منه أو الطمأنينة من عدم استطاعة أحد المساس بها، كل ذلك كان دافعاً البحث في دهاليز تلك الفئة.
بعد عدة أيام قادتني قدماي للجلوس أمام مبنى عمادة شؤون الطلاب بجامعة النيلين، وأثناء تجوُّل عدد من الطفلات جاء شاب في العقد الثالث من عمره وجلس إليَّ حيث كنا جلوساً وقام بجمع ما معهن من أموال، وكنت أنظر إليه بينما هو يتجاذب أطراف الحديث مع بائعة الشاي، وهي امرأة في العقد الخامس من عمرها، والتي يبدو أن بينهما ود كبير، وكنت أرغب في التحدث مع الشاب إلا أنها أشارت إليَّ بعدم الحديث، وبعد ذهاب الشاب تحدثت ضاحكة (عارفاك يا أستاذة الشمار كاتلك) لمعرفتها بي وبمهنتي، وأضافت قائلة: هذا الشاب مهمته مراقبة الأطفال وجمع الأموال حتى لا يقمن بصرف ما تم جمعه (والناس ديل ساكنين جنوب الخرطوم لو عايزة بديك رقم زول) وقامت بمناولتي هاتفها الصغير (طلعي رقم فلان السمسار) بالفعل قمت باستخراج الرقم وتسجيله، وقالت إنه يعمل على تأجير منازل للمتسوِّلين، وعلى إيجاد مدخل له، شكرتها لتبدأ من هنا رحلة البحث عن المجهول وأسرار تلك المهنة العجيبة.
بعد أيام توجهت إلى صينية السوق المركزي والتي تعد من أكثرالمناطق انتشاراً للمتسوِّلين وكانت لديَّ إحدى معارفي تعمل بسوق الخضار، جلست بجوارها وهي من سكان منطقة مايو، هنا تمكَّنت من مراقبة عدد من النساء والأطفال، وأنا أتجاذب أطراف الحديث معها قلت إني أرغب في الانتقال إلى جنوب الخرطوم، قالت: (يا أستاذة مايو ما بتنفع معاك معظم البيوت بقت للشحادين، امشي الأزهري أحسن ليك)، وهنا استرسلت في الحديث أوضحت العديد مما يخفى عني، فارقتها، وقالت: إن هناك شخص لديه منازل كثيرة، ولكنه يقوم بتأجيرها للمتسوِّلين، هنا أدركت (السمسار) واتصلت عليه مباشرة وقلت له: أرغب في منزل بمنطقة عد حسين، بما أنك تعمل في تلك المنطقة، فاجأب بنعم، وأضاف: إن عليَّ الحضور إلى دلالة السيارات إذا كنت قريبة فأجبت بأنني -حالياً- في جامعة أفريقيا العالمية، فذهبت إليه، وقال: مواصفات (البيت شنو)؟ فأجبته، زدت في الحديث هل تعرف فلان لأن لديه منازل، فأجاب إن منازله تعبانة (ما بتنفع معاك) بعدها أفصحت له عن هويتي وإنني أرغب في التحقيق عن التسوُّل وأنك تقوم بتأجير المنازل (جبتي المعلومات دي من وين) قلت له: إن لديَّ أقارب هنا بالمنطقة (ناس منو) فذكرت أحد الأسماء (أها تسعة ملي أنتي جاية من جوة البيت خلاص أنا بساعدك بس ما تجيبي اسمي من البداية عرفتك ما عايزة بيت إيجار خلاص أديني كم يوم كدا أقنع الجماعة) .
عدة محاولات
بعد عدة محاولات جميعها بات بالفشل وبعد أن تخلَّل اليأس إلى دواخلي ونسيت الأمر حاولت للمرة الأخيرة، وأكدت له عدم نشر أي أسماء أو حروف، أجاب (خلاص تعالي بكره الساعة تمنية في الصينية) وعند حضوري في التوقيت وقفنا أعلى الجسر وظللنا نتابع من الأعلى حتى جاءت عدد ثلاثة تكاتكك قامت بإنزال عدد من النساء. والأطفال، وانطلقت عدد من التكاتك الأخرى، قال لي: إن هؤلاء الشباب يقومون بترحيل (الجماعة ديل يومياً صباح ومساء وهناك مسؤول آخر يعمل على جمع الإيراد) .
أخبرني أن المجموعة تتكوَّن من (50) شخصاً، على رأسها الشخص المسؤول وهو خريج جامعي متزوِّج ولديه عدد من الأبناء، وزوجته الكبرى هي مشرفة السكن ولديها تسعة أطفال، ولدى الرئيس وزوجته عدد (5) تكاتك تعمل على ترحيل المجموعة وتوزيعهم في أماكن العمل مقابل (10) آلاف جنيه، شهرياً، رسوم الترحيل إلى جانب (20) ألف جنيه، مقابل السكن، ويتم توزيع السكن حسب الحالة الاجتماعية، المتزوِّجون في منازل منفصلة، وهناك منازل للنساء برفقة أطفالهن، وأخرى للأطفال مع نساء حتى يسهل لهن الإشراف عليهم .
ذكر لي محدثي أن الرئيس ورث العمل من قريبه الذي غادر البلاد متجهاً إلى إحدى الدول الأروبية عبر (السمبك) وأن المجموعة كانت تتكوَّن من خمسة أشخاص، فقط، بعدها أصبح العدد في زيادة، منهم من جنسيات غير سودانية وكل أربعة أشخاص لديهم شخص يراقبهم، بما في ذلك الأطفال ويتم جمع الأموال كل ساعتين، وأن الفترة الإجبارية هي ستة أشهر، بعدها يمكن الشخص الاستفادة من مدخراته والعودة إلى المكان الذي جاء منه أو الانفصال عن المجموعة، وحالياً لدينا (5) منازل، كل عشرة أشخاص في منزل واحد وعليهم تناول وجبة واحدة بمكان العمل على أن تتم الوجبة الثانية جماعية داخل السكن.
نماذج
بعد انتهاء الحديث معه قال لي: سوف (أتونس) مع إحداهن (وأنتِ سجلي كلامها عشان ما تكلم الريس) وبالفعل نادى على إحداهن وطلب لها ساندوتش وسألها من والدتها، وقالت له: إنها قد أكملت فترتها أي الستة أشهر، وتحصلت على رأس مال وأصبحت تعمل في بيع العطور الغربية التي تأتي من الغرب وبعض الأعشاب العلاجبة بسوق ليبيا وتسكن بمنطقة عشوائية غرب السوق، وهنا سألها كيفية الوصول إلى هنا؟ قالت له: وصلنا إلى الفاشر من منطقة حدودية ذكرتها، ولكني فضَّلت حجبها، وأضافت: بعدها وصلنا أم درمان بالبص، وكان هنالك شخص في انتظارنا بتوصية من أمي التي كانت معنا، ومن خلال حديثها عرفت أنها ترغب في الأتيان بزوجها بعد أن رأت (الشغل كويس)، لتذكر له أنها تأخرت وإن فلان المراقب قد يشكوها للريس.
وبعدها قام بالاتصال على شخص بسوق ليبيا وأوصاه بأن يمدِّني بمعلومات حدَّدها له، وأنني (زولة ما منها خوف)، فقط لديها بحث وبالفعل أخذت الرقم وطلب مني وصوله بمنطقة الطلمبة الأخيرة غرب سوق ليبيا، وأخبرته بأنني أعلمها جيِّداً، ضحك، وقال لي: (دا كلام كويس) التقيته في اليوم الثاني وسرد لي تفاصيل عمله وأن مجموعته تسكن بالعزبة وهو سكن عشوائي ويقوم بتوزيعهم في الجامعة الإسلامية والتقانة، وعدد من مستشفيات مدينة أم درمان، وأضاف: إن معظمهن نساء في مقتبل العمر لتحملهن ظروف العمل، ومنهم أطفال وهنا ثلاثة أشخاص رجال كبار في السن هؤلاء يعملوا بواقف سوق ليبيا، ويتقاضى منهم (20) ألف، شهرياً لأن السكن لا يدفع عليه مالاً لأنه سكن عشوائي وهو قام بالبناء فقط ويعمل على توفير المياه لهم. سألته عن تكاليف العلاج قال: إن هؤلاء الأشخاص مناعتهم قوية ولا يحتاجون إلى علاجات وليس لديَّ دخل بهم على بالإيراد فقط، هنا قلت له: ألا ترى أن ذلك تجارة بشر؟ قال لي: (أستاذة أنا ما جبرت زول).
مخرجات
من خلال هذا التحقيق يتكشَّف لنا أن هنالك تجارة تسوُّل منظمة تدار داخل السودان معظم العاملين فيها هم من الأجانب، إضافة إلى سودانيين، وهذا الغزو الأجنبي يعود إلى الحدود المفتوحة والتداخل بين دول الجوار الذي يسهل عليهم عمليات التنقل، في غفلة الجهات المسؤولة، وأن معظم الوافدين إلى السودان لا بغرض العمل في أعمال كبيرة صناعية أو زراعية، بل لامتهان مهنة التسوُّل إذا جاز لي أن أسميها فقط، لأن السودانيين أكثر حنية وأنهم يحققون أرباحاً طائلة بالتسوُّل.