السمسرة والموسرة”.. داء إسقاط أخطائنا على شماعة “الأجانب”
بقلم: ناصر بابكر 6 نوفمبر 2022م
(1)
“ايداهور ده بتاع جري ساي”.. “باولينو ده مستحيل يكون برازيلي” .. “ابالو ده عمره بكون 50 سنة ومشى ما بقدر يمشي”.. “أوتوفيستر ده سمسار” .. “ليما ده ما عندو علاقة بالكورة والجابو ده إلا يكون سمسار”.. تلك غيض من فيض عبارات وانتقادات وشتائم لاحقت لاعبين أجانب في الأشهر الأولى لهم في المريخ من مجتمع مصاب بداء “الموسرة” للمُحترفين الأجانب ومعها اتهامات “السمسرة” للمدربين الذين طلبوا انتدابهم.
(2)
على الرغم من أنّ عشرات التجارب برهنت على حاجة الأجانب لوقت طويل يختلف من لاعب لآخر بحسب الجاهزية البدنية وبحسب القدرة على التكيف والتأقلم مع أجواء السودان وطبيعة لعب الأندية السودانية والملاعب ونوع الغذاء والحياة..
إلا أنّ مجتمع بلد “المليون خبير” يأبى إلا أن ينسخ أخطاءه بالكربون ويمضي في ذات النهج الذي أثبت آلاف المرات أنه نهج كارثيٌّ ومدمرٌ.. إذ لا يمكن أن يكون الإداري والإعلامي والمشجع أفقه من المدرب في “عمله وتخصصه” فيما يلي تقييم اللاعبين.. ولا يمكن أن يكون أكثر دراية بدرجة جاهزيتهم للعب سواء “البدنية أو الفنية أو التكتيكية أو الذهنية” من المدرب الذي يشرف على تدريباتهم يومياً ويتواجد معهم في المعسكرات ويمدهم بالتكتيك الذي يرغب في اتباعه.. لكن في “دار الخبراء” صار “الإفتاء” هواية وصلت حدّ الإدمان.. دون إغفال داء تصفية الحسابات العضال بين إداري وآخر ومجلس وآخر.. والأسوأ داء “السمسرة”، فاتهام كل مدرب أجنبي بأنه “سمسار” ينطبق عليه مثل “الفيك بادربو” لأن كل إداري واعلامي وقطب ووكيل لاعبين يرغب في أن يكون له نصيب في كعكة تعاقدات الأجانب من “مدربين ولاعبين” يسارع في توجيه تلك التهمة للمدرب لتشكيل رأي عام ضده ومن ثم فتح الباب لتعاقدات جديدة ومكاسب عديدة يستفيد أصحابها ويتضرّر المريخ.. مع أن العقل والمنطق يستبعدان فرضية أن يكون تفكير المدرب في “عمولة” صفقة لاعب أو أكثر أهم عنده من النجاح بكل ما يحققه له من عوائد مالية من حوافز انتصارات وتقدّم في البطولات ورفع أسهم يسهم في زيادة الراتب وتقوية سيرة ذاتية تفتح أمامه أبواب الحصول على عروض أفضل من أندية كبيرة.
(3)
ولأننا مجتمع مريض بداء “رهاب المدربين” وبهواية غريبة ومريبة في وضع المدربين في قفص الاتهام والتعامل معهم كأعداء ومجرمين قادمين لنهب ثرواتنا وأموالنا ووأد نجاحاتنا.. فإن المدرب عندنا “سمسار ولا علاقة له بالتدريب” حال أبعد لاعباً أجنبياً عن المشاركة أو أشركه وظهر بشكل غير جيد، دون أن ندري شيئاً عن جاهزية اللاعب وظروفه المحيطة.. وحال أشرك الأجنبي لم يكن يشارك سابقاً وتألق، فإن المدرب “يحارب لاعبيه ولا يعرف قدراتهم” وكأن المدرب قادم من بلاده لتدريب المريخ ليخوض معارك تصفية الحسابات مع اللاعبين واقصائهم، وفي كل تلك السلوكيات التي ننتهجها، نحن فقط نقوم بإسقاط أمراضنا وعيوبنا وأخطائنا ونعلقها على شماعة المدرب.. رغم أن فشلنا وفشل كرتنا المتوارث منذ النشأة يثبت أننا “نعيب زماننا والعيب فينا وما لزماننا عيب سوانا”.. وهي بحق حالة مرضية مُزمنة وداء فتّاك نعاني منه ويحتاج إلى علاج يحتاج منا للاعتراف بالمرض أولاً عوضاً عن المكابرة المدمرة.
(4)
المشاركة أمام الأهلي شندي لم تكن الأولى للنيجيري “إيدو موسيس” الذي كان مع الكاميروني “بومال” وقبلهما الأنغولي “ماكايا” أول ثلاثة عناصر دخلت توليفة المريخ منذ أول مباراة تنافسية في الموسم أمام “أرتا سولار” الجيبوتي ذهاباً ثم إياباً وكان واضحاً أن قدراتهم جيدة ومبشرة مع نقص الجاهزية البدنية وحساسية المباريات.. وفي أول مباراة للمريخ على “دلجة” إستاد الخرطوم، أمام الأهلي الخرطوم تعرّض موسيس وبومال لإصابات عضلية أبعدتهما لفترة عن التدريبات وحوّلتهما للتأهيل ليخرجا من التشكيلة الأساسية أمام الأهلي طرابلس ذهاباً وإياباً ما فتح باب المشاركة للجزولي وكمبالي.. وبعد العودة من ليبيا، كانت حالة “الهياج” و”تصفية الحسابات” قد انطلقت إداريا وإعلامياً ووضعت “أجانب حازم وأبو جريشة” وهم في الأصل “أجانب المريخ” هدفاً للتدمير والطرد من الكوكب الأحمر، فتغيّبوا عن التدريبات لأربعة أيام متتالية وهم في أشد الحاجة لكل ساعة تدريب بسبب خلافات مع الإدارة التي كانت تتجه للتخلص منهم، وكانت النتيجة استبعاد الثلاثي “موسيس وبومال والكولمبي برايان” عن رحلة كوستي تمهيداً لمخالصات تلحقهم بالظهير التونسي.. مع تراجع جاهزية ماكايا وكمبالي بدنياً وقبلها نفسياً وذهنياً وكان ضحية ذاك النهج وتلك الأجواء العدائية هو المريخ الذي فقد نقاط الرابطة.
(5)
رؤيتي الشخصية بعد مشاهدة الأجانب في أول تجربة ودية أمام هلال الساحل ثم في مباراتي “أرتا سولار الجيبوتي” أن “موسيس” إضافة كبيرة للمريخ بالقدرات المختلفة التي يمتلكها من سرعة وقوة بدنية وحركة وضغط على الخصم وروح قتالية بحيث يشبه “استايل” لعبه لدرجة كبيرة استايل الراحل “ايداهور”.. وأن “بومال” لاعب كبير صاحب قدرات فردية عالية وفهم عال لكرة القدم وكيفية التحرك في الملعب.. وكان واضحاً من تجربة “هلال الساحل” أن الكولمبي “برايان ادينسون” صاحب لمسات جيدة وكان أكثر وضوحًا أنه سيحتاج لوقت طويل جداً للعب التنافسي لأنّ لياقته لم تكن تسعفه للعب أكثر من ربع ساعة ودياً إلى جانب زيادة كبيرة في الوزن كانت تشكل خطراً عليه وتجعله عرضةً للإصابات الخطيرة حال الدفع به قبل أن يتم إنقاص وزنه ورفع درجة جاهزيته البدنية.. وكل ذلك دون تجاهل البيئة المحيطة وظروف الأجانب سواء من ناحية سكن أو مستحقات أو تأقلم مع الحياة في السودان من ناحية طقس وعادات وغذاء وملاعب لا مثيل لها في السوء في كل أنحاء العالم.
(6)
لكن الأهم من رأيي ورأي غيري.. وانطباعي وانطباع غيري.. (الوقائع والحقائق) التي كانت تقول إن الأجانب بعيدون عن الجاهزية، وبالتالي فهم بحاجة لوقت ليس بالقصير ليقدموا أفضل ما عندهم.. ثم (التجارب) التي دشّنت بها هذه الزاوية والتي تؤكد أهمية وضرورة وحاجة الأجانب للصبر وعدم الاستعجال في إطلاق الأحكام عليهم حتى لو كانوا في قمة الجاهزية، لأنّ القدرة على التكيف والتأقلم في بلد حتى أهله يعانون للتكيف معه، تختلف من لاعب لآخر.
(7)
ما طرحته في هذا المقال، طرحته من قبل في عشرات المقالات.. فالأمر لا يتعلّق بالمدرب الحالي أو الأجانب الحاليين بقدر ما يتعلّق بداء وظاهرة “موسرة الأجانب وسمسرة المدربين” التي لن نتقدّم قيد أنملة ما لم نتخلص منها ونستن نهجاً جديداً يقوم على الصبر وعدم الاستعجال والكف عن اسقاط سوءاتنا الأخلاقية والفكرية على الأجانب والتعامل معهم بعدائية غير مبررة وتحميلهم وزر كل أخطائنا وعيوبنا، والافتراض غير الصحيح بأننا خبراء وأصحاب قدرة على الإفتاء في تفاصيل يثبت التاريخ وتبرهن التجارب أنه لا علاقة لنا بها ولا نفقه عنها شيئاً ولا نتعلم لا من التاريخ ولا من التجارب وأننا مجرد “مُدّعين موهومين” لا أكثر ولا أقل.