وزير مالية حكومة حمدوك الاولى إبراهيم البدوى في حوار ساخن مع صحيفة مصرية
رصد : الصيحة
أكد الدكتور إبراهيم البدوى، وزير المالية والتخطيط فى السودان سابقا، والمدير التنفيذى لمنتدى البحوث الاقتصادية، أن أبرز التحديات الاقتصادية والاجتماعية التى تواجه الدول العربية بشكل عام والدول ذات المديونيات الخارجية المرتفعة بشكل خاص، النزاعات والحروب التى تعد أخطر ما يواجه العرب، وأن التقشف ليس حلا لمشاكل الديون.
وأضاف البدوى، الذى عمل أستاذا للاقتصاد فى السودان وجامعات أمريكية وعربية وعمل أيضا بالبنك الدولى ومركز السياسات والبحوث بمجلس دبى، خلال حوار لـ«المصرى اليوم»، أن صندوق النقد يجب أن يكون سخيا فى تلك الأوقات مع الدول النامية ويجب إعادة هيكلة موازنات دول الشرق الأوسط وشمال إفريقيا وإطلاق النمو مع العناية الخاصة بتحقيق التكامل الإقليمى العربى وإلا فالجميع خاسر، والى نص الحوار:
■ ما أبرز تحد يواجه دول المنطقة برأيك؟
– النزاعات والحروب الأهلية وتعثر بناء السلام. إن ذلك يدمر الثقة بين مكونات المجتمع ويحطم القدرات ويبدد الموارد ويؤثر سلبا فى الاستقرار والسلام الاجتماعى والتطور الاقتصادى معا. وما لم تتم معالجة الأسباب الجذرية لتلك الحالات وعبر عمل مشترك صادق بعيدا عن الدبلوماسية التقليدية والمناورات الحزبية أو السياسية فإن الخسائر ستكون أفدح من أى تصور.
■ هل العامل الاقتصادى الاجتماعى سبب للصراعات أم نتيجة لها؟
– هو سبب ونتيجة معا. فدراسة الحروب الأهلية والنزاعات تبين وجود سببين أساسيين للصراعات أولهما التفاوت الأفقى بين المواطنين على مستوى المناطق والإثنيات والانتماءات الجهوية والفئوية والتفاوت الراسى المعروف بين غنى وفقير، وبينت صراعات كثيرة أن العامل الأفقى وعدم القدرة على إدارة التنوع، والتمييز فى الحقوق اللغوية والثقافية والسياسية قد يكون هو الأخطر.
وقد يبدأ النزاع لأسباب أفقية ثم سرعان ما يتحول إلى رأسى لأنه يدمر رأس المال المادى والاجتماعى ويطيح بالثقة بين الجماعات الوطنية ومعه تكون هناك قلة تعيش جيدا والباقى لا يجد أبسط مقومات الحياة الكريمة، وتحدث اضطرابات اقتصادية وأمنية عنيفة ويحتاج ضبط الأمن إلى مزيد من الموارد مما يفاقم العجز عن تلبية المتطلبات الأساسية للمواطنين وينهك القدرة على التخطيط والاستثمار والتنمية بينما يتهتك النسيج الاجتماعى.
■ ما الترجمة العملية لذلك؟
– الحرب الأهلية تقلص دخل الفرد بـ ٢.٥% سنويا حسب الدراسات، وفى السودان كمثال قدرت كلفة الحرب الأهلية عبر ٢٠ عاما من النزاع (1983- 2005) بأكثر من أربعين مليار دولار والتى كانت تساوى مجمل مديونية البلاد عند انتهاء الحرب فى ظل الحكم السابق. لكن الجانب الآخر من الصورة يقول إنه إذا أمكن بناء السلام عبر صبر وجهد وتوافق وطنى حقيقى على كيفية علاج الأسباب العميقة للفوضى، فيمكن فى هذه الحالة أن تنمو الدولة بـ١٠% سنويا لمدة ٢٠ عاما وبذلك تعوض ما فاتها وهناك أمثلة على ذلك، من بينها رواندا وموزمبيق، مع ملاحظة أن النزاعات كانت عنيفة جداً فى أوروبا الشرقية بعد انهيار الاتحاد السوفيتى لكنها لم تستغرق وقتا طويلا، لكن فى إفريقيا والمنطقة العربية تطول وتتعمق وتستعصى على الحل.
■ يلاحظ التداخل السياسى والاقتصادى فى مراكز البحوث الاقتصادية فى العقد الأخير بنحو خاص، ما تفسير ذلك؟
– كمنتدى بحوث اقتصادية فإن التخصص يهيمن على عملنا، ولكن زاد فى العقد الأخير فعلا وبوتيرة متسارعة تأثير العامل السياسى على ما هو اقتصادى واجتماعى ومن ثم لم يكن هناك مفر من تناول ذلك ولكن بأسلوب علمى مهنى موضوعى. وقس على ذلك مراكز أخرى، وحسب مكانة ودرجة حوكمة كل منها، ولقد أظهر الانعكاس العام للنزاعات والحروب الأهلية على الأوضاع التنموية ضرورة دراسة هذا التشابك وعمل مقترحات شاملة للقضية محل البحث فالسياسة الاقتصادية هى فى النهاية تجسيد لخيارات سياسية.
■ حسبت أنك سترى فى الديون الهم الأكبر للمنطقة فما هو التحدى التالى؟
– هناك تحديات جديدة أو ذات أبعاد جديدة تواجه الدول المنتجة أو المستوردة للنفط مثل المسألة الجيلية ودور الشباب والحياد الكربونى بتكلفته، والثورة الرقمية والتكنولوجية وسباق التنافسية ومدى قدرة الاقتصاد على توليد فرص عمل لائقة وإدارة التفاعل مع الإقليم والعالم بفاعلية، كل ذلك يحتاج مشروعا وطنيا مدروسا وله احتضان شعبى، ولا ننكر هنا أهمية رؤى ٢٠٣٠ فى عدد من الدول العربية.
■ ألا ترى بشائر تنبه إلى أهمية التعاون الثنائى والإقليمى بعد كل ما جرى ويجرى فى العالم؟
– لا مفر من تسريع إيقاع المواءمة بين الانتماء القطرى وبين المصالح والمصير العربى. لا مجال هنا لشعارات ولابد من مشروع تكامل بصورة واقعية وعملية. أوروبا تجاوزت التعدد الثقافى واللغوى وبدأت برابط بسيط فى مجال الأسمنت ثم أكملت اتحادها بعقلانية بحيث تدار الشؤون الاقتصادية والتوجهات العامة فيها بواسطة إدارة بيروقراطية مفوضة تنفذ ما توافق عليه القادة السياسيون فى دول الاتحاد، تعمل فى مدينة بروكسل فى بلد صغير (بلجيكا)، أصبحت عاصمة أوروبا.
أما العرب فيملكون الكثير جدا من الروابط الجغرافية والروحية والثقافية واللغوية ويمكنهم أن يستفيدوا من التجربة الأوروبية لبناء مشروع عربى لـ«الوحدة الاقتصادية» أى أن يمتلك العرب مشروعا تنمويا وعصريا تقدميا للنهوض، مشروعا يستنهض الشعوب من حافز الخلفية الثقافية والروحية ويحقق طموحات الأفراد ويواجه عالمه بندية، إضافة إلى ذلك معالجة قضية العدالة وإصلاح منظومة الحاكم والمحكوم باتساع صدر وحوار معمق لأن الانهيار لو بدأ سيكون خرابا وخسارة للجميع، مؤيد ومعارض وحاكم ومحكوم.
الدكتور إبراهيم البدوى وزير المالية والتخطيط فى السودان سابقا
■ لماذا تقسم المنظمات الدولية الدول العربية إلى «غرب آسيا» و«دول الشرق الأوسط وشمال إفريقيا» ولا تعاملها كمنطقة واحدة؟
– عندما ترى المنظمات الدولية أن هناك مشروعا عربيا عمليا واضحا توافقت عليه الدول والشعوب ويمكن قياس مخرجاته واختبارها ساعتها ستعيد التفكير فى طريقة التقسيم هذه. أما الآن فالمبرر هو أن التقسيمات الحالية تأخذ فى اعتبارها الرابط الأوضح وهو الجغرافيا ولذا تجمع دول المغرب العربى مثلا معا. أو دولا مثل إثيوبيا وأوغندا وكينيا أو مصر والسودان بسبب النيل والجوار وإمكانيات التكامل الضخمة.
ولأن المشروع العربى العقلانى يحتاج إلى جهود من جهات مختلفة بما فيها مراكز البحث الاقتصادى حرصنا فى المنتدى على بحث كل ما يعوق التكامل العربى وكيفية إعادة بناء الدول فى أعقاب الصراعات والحروب الأهلية، كل ذلك وسط حرص دائم على المنهجية السليمة والحوار الهادئ وإنتاج بحوث وتوصيات واقعية تقبل التطبيق وأخيرا نحرص أيضا على زيادة إنتاج المعرفة العلمية عالية الجودة فهذا أمر فيه نقص عربى واضح.
■ فى عقود سابقة ساد تقسيم العالم العربى إلى دول الثروة ودول الثورة، ودول الأخضر أى الزراعة والأصفر أى الصحراء،أو دول التقدم ودول البداوة وهكذا هل انتهى ذلك فعليا؟
– كل تلك كانت تقسيمات غير مريحة وغير إيجابية بل وقصيرة النظر جدا، وانطلقت من أن كل جزء منفصل عن الآخر وأهملت إمكانيات التكامل المنطقية جدا حتى بافتراض صحة هذا التقسيم، فمثلا لو أصفر وأخضر، فالأول يحتاج إلى الثانى فى مجال الزراعة والغذاء، وكان هناك رؤية نشأت بعد حرب أكتوبر ١٩٧٣ لعمل سلة غذاء عربى وأنشئت هيئة لذات الغرض مقرها السودان وصندوق عربى للإنماء بإفريقيا والتى يمكن تطويرها وتوسيعها فى ظل تحديات الأمن الغذائى العربى الماثلة.
أيضا فتصنيف الدول إلى دول نفط وقليلة السكان ودول فقيرة كثيفة السكان لا ينفى الترابط الكبير بين اقتصاداتها، فالأخيرة تحتاج إلى رؤوس أموال من الأولى، وذلك يلزمه رؤية استراتيجية للمستقبل ومناخ أعمال موات وتشريعات جيدة وضمانات متبادلة وتقسيم عادل للمنافع مع الإشارة إلى أن تحويلات العمالة بدول النفط مهمة وكذا السياحة العربية إلى الدول غير النفطية كمصر والمغرب ولبنان. آن مجريات الأمور الحالية بعد كورونا والحرب الأوكرانية وارتباك سلاسل الإمداد تؤكد أن ضرورة التحسب لاضطرابات الإمدادات وتنوعها ولذا يتعين التركيز على خلق سلاسل قيمة إقليمية عربية.
■ نأتى إلى مشكلة الديون؟
– فى تقرير أخير بين منتدى البحوث ومعمل تمويل التنمية الملحق بمدرسة باريس للاقتصاد، حول حتمية التوجه للتحديث بالمنطقة، فحصنا الكثير من الدراسات الاقتصادية السابقة الدولية والإقليمية ذات الصلة بالمنطقة وأصدرنا توصيات ذات طابع جديد تخص المنطقة كلها وسنواصل بدراسات تفصيلية عن ٦ دول مختارة هى السودان ومصر والمغرب وتونس والأردن ولبنان، لوجود قدر من التماثل وأيضاً التباين فى الظروف الموضوعية التى تواجهها تلك الدول فى مجال الديون وغيرها.
الدين فى تلك الدول متوسطه ٨٠% من الناتج وتلك ليست نسبة على درجة عالية من الخطورة. فى السودان النسبة أكثر من ١٠٠%. إذن ٨٠% هى على تخوم الخطر، لكن الأخطر هو ديناميكية الديون وأعباء خدمتها بالذات. لقد تراجع النمو فى الفترة من عام ٢٠٠٠ إلى ٢٠١٠ عن ٢٠١١/ ٢٠١٩ فى مصر نسبيًا، وفى المغرب إلى نحو النصف وفى السودان نزل بعد الحقبة النفطية وقبل انفصال الجنوب من ٥.٤% إلى سالب ١.٢%، ولبنان سالب ٢.٧% بعد موجب ٥.١% وانخفض أيضا فى الأردن وتونس.
من هنا تحدثنا فى تقريرنا عن إعادة إطلاق النمو ومراجعة تركيبة الإنفاق وإعادة هيكلة الموازنات للتركيز على محفزات النمو مثل البنية التحتية الجيدة وإصلاح نظم الرقابة والتنظيم وبيئة الأعمال وتطوير الخدمات واتاحة التعليم والصحة وتيسير التمويل للمشاريع الصغيرة والمتوسطة عالية الإنتاجية وتقليص القطاع غير النظامى. تلك هى نوعية الحلول التى نراها.
■ ذكرتم بالتقرير ان التقشف ليس حلا بينما هو عماد وصفة صندوق النقد للدول المدينة التى تواجه قلة حصيلة النقد الأجنبى؟
– العلاج لا يمكن أن يكون بالتقشف فقط لسبب بسيط هو انه تم تجريبه كثيرا ومع ذلك تعود الديون إلى الارتفاع ويعود تعثر النمو، لكن بإعادة هيكلة وتعبئة الموارد وحسن تخصيصها. فى المدى القصير مثلا يمكن للدول التركيز على ازالة الكوابح التى تكبل الاقتصاد والتى يمكن علاجها سريعا وبلا تكلفة. فى مرحلة تالية يتم النظر فى الإصلاحات بعيدة المدى وسط أجواء مريحة أكثر.
فى المرحلة الأولى فإن أكثر ما يعطى مردودا هو رقمنة الجمارك والضرائب وتوسيع مظلة الضرائب دون زيادة معدل الضريبة، وحاليا الضرائب كنسبة من الناتج نحو ١٣% بمصر، ولكى تحقق مصر طموحاتها تحتاج إلى أن تصل ٢٥%، وفى لبنان ٤.٥% وفى السودان ٤.٨% وتلك مؤشرات على أوضاع مأزومة فى البلدين. إن الرقمنة وتوسيع المظلة يقودان إلى زيادة إيرادات الدولة وتقليل اقتراضها ومزاحمتها للقطاع الخاص وخفض التضخم وخفض سعر الفائدة وتحسين وضع العملة وتنافسية الاقتصاد وكل ذلك يؤدى إلى نمو جيد.
■ كيف يكون إذا دور الصندوق والبنك فى ظل مقترحات كتلك؟
– فى تقريرنا قلنا إن الأساس هو العمل الداخلى ورأينا أن الصندوق والبنك والتمويل الدولى عموما هم وسادة للاتكاء عليها إلى حين التعافى. الأصل هو تحسين الإيرادات الحكومية والتوافق والحوار الداخلى ووضوح الرؤية وأن يكون النمو ذا قاعدة عريضة ويشمل أجندة اجتماعية معتبرة. لقد ركز صندوق النقد فيما مضى على التقشف والتثبيت وحين تحدث عن النمو لم يحدد آليات إطلاقه.
ولابد أن يتحمل المسؤولية فى هذه المرحلة ويكون أكثر سخاء ويدخل فى حوار مجتمعى عميق. وقد كشف جهاد ازعور مدير منطقة الشرق الأوسط وشمال إفريقيا فى ندوة أخيرة نظمها المنتدى ومعمل التمويل أن الصندوق سيبدأ مشروع حوار شامل مع دول المنطقة كلها وغيرها من الدول المتلقية للتمويلات لدعمها فى إطار رؤية تنموية أشمل.
■ ما أنجح نموذج تعاون مع الصندوق؟
– شيلى بها بنك مركز قوى ووزارة مالية قوية، ومؤسسية، وصندوق سيادى يتبع المالية لكن يديره المركزى ويتم تدعيمه بالفوائض من صادرات النحاس حين تتحقق والسحب منه فى أوقات الاحتياج عندما تنخفض الأسعار. شيلى من أهم الدول المصدرة للنحاس وعندها استهداف جيد للتصخم واهتمام قوى بالتصنيع الزراعى والغذائى. إنه نموذج للتعامل بندية ووعى مع صندوق النقد.
وهناك طبعاً التجارب الأسيوية الناجحة والتى ربما تعتبر أكثر وضوحاً وقرباً بالنسبة للمنطقة العربية. وفى العموم كلما زاد معدل الادخار والاستثمار الوطنى كلما كانت فرصة الدولة أفضل فى التعامل مع أى تمويل دولى ثنائى أو متعدد الأطراف. آسيا بلغ معدل الاستثمار فيها نحو ٣٠% لعقود والإيرادات الحكومية سجلت من ٢٥ إلى ٣٠% من الناتج المحلى.
■ لماذا لم نتعلم الكثير من آسيا؟
– استضفنا فى المؤتمر السنوى للمنتدى فى العام 2018 البروفيسور بول كوليير من جامعة أكسفورد وهو اقتصادى ذائع الصيت فى قضايا التنمية والمهتم بمنطقة إفريقيا والشرق الأوسط، حيث ركز على تجربة الصين وكيفية التعلم منها. قال إن دول الشرق الأوسط لا تستطيع فى فترة قصيرة أن تكون ماليزيا أو سنغافورة أو الصين. والحل أمامها أن تنظر فى مرتكزات المشروع التنموى لتلك الدول وآلياته.
بحسب رأيه، فقد قام مشروع التحول التنموى فى الصين على: خطاب وطنى يستنهض الهمم، يستدعى تراث الحضارة الصينية وإنجازاته + رؤية تنموية تتعدى الحكومة والحزب (نحن معا) + حوار شعبى موسع وشامل + نظم مؤسسية + مؤشرات قياس للتقدم التنموى والاستثمار والتشغيل والتصدير+ نظام مساءلة داخلية وأدوات محاسبة قوية للحزب ومسؤوليه طبقا للإنجاز + لا مركزية وتنافس بين المناطق والأقاليم وخفض السيطرة المركزية. الآن علينا أن نتساءل: هل لدينا استعداد لذلك.؟. لقد دعا بروفيسور كولييرفى النهاية إلى عدم نقل أى تجربة بحذافيرها ولكن استلهام جوهرها ومرتكزاتها الأساسية من حيث الآليات والوسائل اللازمة لإحداث تغيرات هيكلية عميقة فى الاقتصاد والمجتمع.
■ يبدو أن مجموعة العشرين لا تنوى تخفيف أعباء الديون على الدول النامية؟
– أحيل هنا إلى ما قاله الأستاذ مسعود أحمد رئيس مركز التنمية الدولى والمدير السابق بمنطقة الشرق الأوسط وشمال إفريقيا بصندوق النقد الدولى، حيث ذكر أن الدول الكبرى مشغولة فى مكافحة التضخم وكيفية مواجهة تداعيات سعر الصرف المرتفع للدولار الأمريكى وغيرها من شواغل أمن الطاقة والإمدادات والمطالب الداخلية، وبالتالى ستكون، وبصفة خاصة مجموعة السبع فيها، أقل اهتماما بأمر ديون الدول النامية والفقيرة.
وهنا أقول إن الحل مرة أخرى هو أن نعمل على أنفسنا أكثر بتعبئة الموارد المحلية وإعادة النظر فى معايير تخصيص الإنفاق وترتيب الأولويات… إلخ. ولا يمنع ذلك من أن تقوم الدول النامية بضغوط منسقة حتى لا يتم تسييس عملية التمويل الدولى من صندوق النقد وغيره، شريطة ايضا ان يكون لديها مشروع واضح لعدم والعودة إلى الاستدانة المفرطة مرة أخرى.
■ كباحث ووزير سابق ما الذى أعاق تنفيذ رؤيتك الاقتصادية للسودان؟
– تركيز الثروة والسلطة فى السودان بصورة بشعة فى العهد السابق أضعف كل نواحى الحياة بما فيها الطبقة السياسية، بحيث إن المرء ليقول إن نجاح ثورة الشباب ضد ذلك النظام هو معجزة. لكن المرحلة الانتقالية بعد ثورة وتحديات ثم تطلعات كبيرة لا يكون فيها النقاش واقعيا.
السودان واقع فى حفرة عمقها ٦٠ مليار دولار ديونا تساوى مجمل الناتج المحلى للبلاد فى عام كامل، وكان يحتاج إلى ترتيبات أولية لتثبيت الاقتصاد الكلى (خفض العجز فى الموازنة، إصلاح الدعم السلعى، مكافحة التضخم واستقرار سعر الصرف) للخروج من هذه الحفرة ومن ثم البدء فى مشروع الانتقال الاستثمارى وإعادة الإعمار وتوفير العمل للشباب مما يلبى مطالب الشعب ويحقق طموحات الثورة. كان هناك تعاطف دولى واسع معه، وكان بالإمكان خفض الديون فى ٢٠٢٣ إلى أقل من ١٥ مليار دولار فقط بدعم من دول نادى باريس وتجمع «هيبك» الذى نشأ ١٩٩٦ ويشمل ٤٠ دولة.
ذلك الإعفاء كان يعادل ٤٠% مما تم تقديمه من إعفاءات منذ تأسيس مشروع هيبك، للأسف تعطل هذا المشروع الآن فى انتظار عودة البلاد للمسار الدستورى، لكن حتى بعد إنهاء الوضع الانقلابى الحالى فى إطار توافق وطنى عريض، لابد من الواقعية فى التعامل مع مجتمع التنمية الدولى والابتعاد عن المزايدة بالشعارات الأيديولوجية البالية مثل «عدم رهن إرادة السودان للإمبريالية وكذا».
■ هل الفيدرالى الأمريكى يكافح التضخم فعلا أم له أهداف أخرى؟
– انتقد الدكتور محمد العريان، وكلنا فخور به وبمكانته وعلمه، أكثر من مرة أداء الفيدرالى الأمريكى، وقال إنه قام بتشخيص وضع التضخم فى البداية بشكل خاطئ، وتأخر كثير فى التصدى له رغم تنبيهه ورغم المظاهر الواضحة. الآن يقوم الفيدرالى الأمريكى برفع الفائدة بوتيرة متسارعة وسط ترحيب الطبقة السياسية فى حزب المحافظين حتى لو أضر النمو والاستثمار والاستقرار.. وهى ذاتها بالمناسبة الطبقة التى تؤيد خفض الضرائب بنفس منهج ليز تراس وترامب.
إن رفع الفائدة من أسس مكافحة التضخم بصفة عامة لكن الرفع لا يجب أن يتم لخدمة طبقة، وكلنا يعرف أن الاقتصادات المتقدمة تحرص دائما على مواجهة التضخم لأنه يؤثر بالسلب على الاستثمار والاستقرار، وهذه هى حدود استخدام رفع الفائدة لهذا الغرض، ولذلك فإن الحزب الديمقراطى غير مرتاح لتوجه الفيدرالى، لكن البنوك المركزية فى بلاد مثل أمريكا وإنجلترا لديها استقلالية كبيرة بل ومتطرفة أحيانا بحيث تمتنع عن التنسيق مع السياسة المالية بحجة الاستقلالية.
■ تطالب مراكز البحث وجهات مثل صندوق النقد بإصلاحات هيكلية فى الحكومة وتمكين القطاع الخاص لكن قلما نسمع عن المطالبة بإصلاحات هيكلية فى القطاع الخاص نفسه؟
– سؤال مهم. فالخلل هنا وهناك فعلا، ومن حسن الحظ توجد بعض الأفكار الجيدة لإيجاد حلول مفيدة للطرفين العام والخاص، تتمثل فى إسناد مهام التدريب وتطوير مهارات العمالة والتأهيل للتعامل مع التكنولوجيا الحديثة إلى الجامعات الحكومية فى المحافظات بحيث يجد القطاع الخاص وتجد الحكومة دوما عمالة جاهزة بتكلفة بسيطة تعطى لتلك الجامعات.
على أن تراقب السلطات المحلية أوضاع التعارض بين مصالح صاحب العمل الذى يريد الاحتفاظ بمن أنفق على تدريبهم والعامل الذى يريد الانتقال إلى عمل آخر بعد رفع كفاءته وتضع الحلول المتوازنة والحوافز اللازمة.
المصري اليوم