فِي المُستثنى بإلا..!

“الحياة يا صديقي شَيءٌ جَدَّي أكثر مِمّا يتصوّر الناس، ومن يُريد أن يحيا عليه أن يُغامر كثيراً، أن يكون شجاعاً”.. عبد الرحمن منيف..! 

بروفيسور عراقي جاء إلى السُّودان عقب اضطراب الحال الأمنية في بلاده، وعمل أستاذاً بكلية الطب في إحدى الجامعات الخَاصّة، وبعد مضي بعض الوقت، أبلغ إدارة الجامعة بقرار عودته إلى بلاده، وعودته إلى العمل في جامعة “الموصل” التي كانت تحتاجه عميداً لكلية الطب. لبَّى الرجل نداء الوطن الواجب، ولم يستمرئ الإقامة في بلادنا التي كانت آمنةً جداً مُقارنةً بحال بلاده، التي كانت تشهد توسُّع رقعة حكم “داعش”. وعلى الرغم من كل ذلك لم تتوقّف الدراسة بالجامعات العراقية، بل إنّ كل ما فعلته “داعش” – نفسها – حينما دخلت “الموصل”، هو أنّها قد فصلت بين الطالبات والطلاب في مقاعد الدراسة، ولم تتّخذ – أبداً – قراراً بإغلاق الجامعة..!

وكذلك الحال في الصومال التي أقلقت منامها “بوكو حرام”، ورغم اضطراب الأمن في شَوارعها، لم يتم إغلاق الجامعات. بل إن بروفيسوراً سودانياً سافر – في تلك الأيام – إلى هناك، مُمتحناً خارجياً لطلاب الطب في إحدى الجامعات. وعشية يوم الامتحان وقعت حادثة رهيبة، أُزهِقَت فيها الأرواح، وعلى الرغم من كل ذلك لم يتغيَّب طالب واحد عن حضور الامتحان، الذي كان مقرراً عليهم في الصباح..!

أذكر أنني عندما كُنت أعمل باحثاً بمركز دراسات الهجرة – في جهاز المُغتربين – سافرت إلى العراق في العام 2014م، لحضور مؤتمر علمي بجامعة “واسط”. وفي تلك الأيام كانت العاصمة العراقية “بغداد” تشهد حوادث تفجيرات يومية مُتتالية، كانت في بعض الأيام بمُعدّل انفجارين في اليوم الواحد. وما زلت أذكر الحُضُور العالمي الذي شَهِدَه ذلك المؤتمر، والتنظيم الذي حَفَّه، والهُدوء الذي أحاط بفعالياته. وما زلت أذكر مَظاهر الحياة الزّاخرة في مدينة “بغداد”، وكيف أنّ باعة الكتب والتحف التذكارية كانوا يفرشون بضاعتهم على أرصفة الشوارع، بين البنايات الضخمة التي ملأتها أخرام الرصاص..!

بينما ظلت الجامعات السودانية تغلق أبوابها إلى أجل غير مُسَمّى، على الرغم من انتصار الثورة. ثُمّ ما أن بدأت بوادر عودة الحياة الأكاديمية إلى إكمال مسيرتها، حتى خَرَجَ بعض طلاب الجامعات يُندِّدون بقرارات استئناف الدراسة بجامعاتهم. وكأن الحياة يجب أن تتوقّف – بكل مظاهرها – إلى أجلٍ غير مُسَمّى..!

وكأن بقاء قرار استئناف الدراسة بالجامعات ينبغي أن يبقى “مستثنىً بإلا”، أو موقوفاً على إجازة الطلاب – أنفسهم – لقرار عودتهم إلى مقاعد الدراسة. دونما أيِّ مُبرِّرات موضوعية لبقاء ذلك الحال على ما هو عليه حتى الآن..!

حَسَنَاً فعلت “جامعة الخرطوم” باتّخاذها قراراً عاجلاً باستئناف الدراسة فيها، بعد توقُّفٍ دامٍ حوالي الأشهر الثمانية. وحَسَنَاً فعلت بعض الجامعات الخَاصّة باستئناف قَرار الدراسة فيها. فالبناء والعمل واستئناف الحياة الأكاديمية والاقتصادية والاجتماعيّة، هو أول وأولى ما يحتاجه هذا الوطن من مُواطنيه. وهو أول وأولى ما تحتاجه الثورات للتدليل على انتصارها..!

الثورة مَفهومٌ شَاملٌ ينبغي أن يتجاوز الأُطر السِّياسيَّة إلى السلبيات والأخطاء والمثالب، في كل مناحي الحياة، وفي كل أرجاء الوطن الذي قال شَعبه كلمته، وفَعَلَ ما بوسعه بشأن تغيير ما فَات. لذا كان لِزَامَاً عليه أن يفعل ما بوسعه – أيضاً – لتصحيح المسار، وتجديد المسيرة، نحو مَا هُو آتٍ. فهل – يا تُرى – من مُذَّكِر..؟!

منى أبوزيد

[email protected]

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى