المُفكِّر والسياسي البروفسير حسن مكي لـ(الصيحة) “1-2”
ما يحدُث في الشارع الآن نتاج حصاد (30) عاماً من الإنقاذ
الإنقاذ شبِعت حُكماً حتى تضخّمت وأصابتها (التخمة)
معظم الأحزاب مصنوعة تمارس (جوكية) سياسية
الفساد ركيزة من الركائز التي يقوم عليها الاقتصاد
كل خدمات الدولة في عهد الإنقاذ كانت قابلة للبيع
الحركة الإسلامية انتهت وأصبحت شركة قابضة مملوكة لأصحاب الأسهم
الترابي كان كالقمر لا يُريد بجواره نجوماً وإنما يكون الآخرون تَبَعاً له
حريق القصر الجمهوري مقصود ومُبيّت لأنه يكشف علاقة القصر بالأحزاب
أستغرِب كيف ظلَّ هؤلاء أكثر من عشرين عاماً؟
—
المشهد السياسي الداخلي، يمر بتعقيدات كثيرة، ما بين الثورة التي لم تهدأ مطالبها، وما بين المجلس العسكري الذي يُمسك بمفاصل الدولة، ويريد ضمان فترة انتقالية بعيدة عن التعقيدات والأزمات.
وما بين ذلك الشارع المليء بالشباب الثائر الذي لا يُخفي مطالبه بالمدنية والانتقالية، وكل القوى السياسية تتحرك وتتحسس مواضع أقدامها لتجد أنها فارغة من المحتوى ليصبح الشارع رهيناً لكل قوى المجتمع لإحداث التغيير ربما سنوات الحرمان من الحرية والسلام والعدالة التي بلغت أكثر من عشرين عاماً ألقت بظلالها على المشهد العام، ولذلك الكل يفسره على هواه وفي مصلحته.
(الصيحة) جلست إلى المفكر السياسي والأكاديمي البروفسير حسن مكي لتفكيك مآلات الأزمة وحقيقة الواقع وإلى أين يتجه؟
حاوره: صلاح مختار
تصوير: محمد نور محكر
*ما يحدث الآن في الشارع العام هل هو نتاج (30) عاماً من حكم الإنقاذ؟
مؤكد، أن لمسات الإنقاذ موجودة، بمعنى أن الأنقاذ أضعف ما فيها مشروعها السياسي، وهذا اتضح منذ عام 98 عندما وقع الطلاق السياسي بين الترابي والبشير، وللأسف الشديد أن الفئتين (شخصنوا) مشكلة السودان أن تحل في معسكر الدولة، وبالتالي معسكر الدولة تمت (شخصنته) في البشير والمعسكر الآخر بدأت شرعنته وشخصنته في تمجيد الترابي، ونُسب للترابي ما لم يفعله الترابي، نسب له انه مع الديمقراطية والتداول السلمي للسلطة، ورسم وجهاً جميلاً للنموذج الإسلامي، ولكن ـضعف ما في كلام مجموعة الترابي أن سنوات الترابي في السلطة كانت أسوأ سنوات الإنقاذ في الحريات، وأضعف ما في كلام مجموعة الدولة أن الدولة انتهت إلى أنها أصبحت البشير سواء كان التنظيم السياسي أو الحركة الإسلامية. والحركة الإسلامية انتهت إلى أنها أصبحت للأسف الشديد شركة قابضة، بمعنى أنها أصبحت مملوكة لأصحاب الأسهم، وغير أصحاب الأسهم عليهم أن يأتوا في المحتشدات ليباركوا ويؤيدوا، والآن ترى مأزق الحركة الإسلامية التابعة للدولة، والتي كانت مع البشير، الآن لن تستطيع أن تقف على قدميها، وآنما الآن تتحرك من خلال واجهات تيار نصرة الشريعة ودولة القانون، وحتى الآن لم تتكلم بجملة مفيدة حتى لعضويتها، وأصبحت مرهونة لمن هم في السجن، ومن هم في السجن قاموا في النهاية بعمل توكيل خاص لواحد منهم أن يُصار للحركة الإسلامية دون مجلس شورى أو مؤتمر أو غيره، ورئيس الحركة الإسلامية الآن لا يكاد ينطق بجملة، وكأن الأمر لا يعنيه من شدة ما اختلطت عليه العبارات، ولذلك إذا اختلطت العبارات على النخبة الإسلامية وأصبحت في هذا الوضع المرتبِك، من المؤكد أنها مسؤولة تماماً عما يجري. حركة وحزب غير قادرين على إدارة عضويته فكيف يكونان قادرين على إدارة البلد.
*هل تلك تقديرات لواقع السودان الاجتماعي؟
الآن السودان فيه حوالي (40) مليون شاب دون الأربعين هؤلاء منهم حوالي (26%) دون الأربعين عاماً يمثلون حوالي (6) ملايين دون وظيفة وبدون عمل وبدون أمل، ولذلك الآن هم الذين يملأون الشوارع.
*كأنك تقول ما يجري في الشارع الآن نتائج فعل سلبي كيف تُشخَّص ذلك؟
للغفلة خلال السنوات التي مضت والتراكم الذي حدث من الثورة التعليمية. كل عام تُخرّج الجامعات قرابة مائة ألف شاب، والفاقد التربوي يُخرّج قرابة هؤلاء، لذلك لن تكون هنالك فرص للعمل، لم يكن هناك تفكير في كيفية توظيف الشباب، وبالتالي الآليات المنصوبة على الشباب الذي يحمل أوراقه للخدمة الوطنية والدفاع الشعبي، ونجد في دارفور الحركات المسلحة، والبعض لجأ للهجرة عبر البحر الأحمر والصحراء، يمكن حدث تنفيس نوعاً ما عن طريق مناجم الذهب من الـ(6) ملايين هناك مليون في أسوأ الحالات بعضهم يحيا وبعضهم يموت، وبعضهم يأتي محبطاً دون شيء.
*رغم ما قلته عن المفاصلة، إلا أن البعض فسّر ذلك بأنها مسرحية ليبقى البعض في الحكومة والآخر في المعارضة؟
يعني بأنها مسرحية، بمعنى أن المسرح شهد دراما اللامعقول، أن تنقلب سكرتارية مكتب الترابي عليه، وأنه ينقلب على حكومته، وأنه يذهب إلى الحركات المسلحة ويستخدمها ويظهر من الملفات الكتاب الأسود والتي ليست بعيدة من الملفات التي يُديرها الترابي، وفي ذات الوقت كانت أكبر كارثة ألمّت بالسودان، هي فصل الجنوب. حيث ذهب ثلث مساحة البلاد إلى جانب 70% من عائدات السودان كانت حاضرة، 22% من الكتلة الحيوية للسودان، طبعاً قبل أيام شهد الناس أشياء، ولكنهم لم يفهموها حينما رأوا البابا على قداسته يسجد في الأرض يُقبّل حذاء سلفاكير ومشار، ويعتبر ريك مشار وسلفاكير قدِّيسيْن. والسؤال يطرح نفسه لماذا اعتبرهما من القديسين.
*كيف تُفسّر ذلك من خلال التعاطي مع الواقع السوداني؟
اعتبره كأنه يقول لهما أنتما لأول مرة في أفريقيا حركة مسلحة تستطيع أن تنتصر وتقيم نموذجاً للدولة على غرار ما حدث في نيجيريا وفي تشاد، لذلك يقول لسلفاكير ومشار أنتما مقدسان لدينا حافظتما على الهوية المسيحية وفعلتما بإخوة في دولة أفريقية ذات هوية إسلامية وهذه الدولة الإسلامية سوف تتحول لدولة فاشلة، لأنكما سحبتما منها (22%) من الكتلة الحيوية و(90%) من النفط موعودة أن تكون موديلاً لأفريقيا السوداء.
*البعض يتحدث عن النموذج الإسلامي، وكأنه خطأ تاريخي ونقطة سوداء؟
هذا اجتهاد، حتى وإن قال خطأ لماذا؟ هذا اجتهاد يمكن قبوله، فالذين يتحدثون عن فكرة الدولة، فهي ليست موجودة في الثقافة الإسلامية، أنا أقبل هذا الكلام، لأن الموجود في الثقافة الإسلامية هو السلطان أو الخليفة.
*ولكن موجودة كمؤسسات؟
فكرة الدولة القائمة على مؤسسات، وعلى رؤى وعلى سلطة تنفيذية وتشريعية وقضائية، هي هدية الثقافة الغربية للمجتمع الإسلامي، وبنت فكرة الدولة القومية، والإسلام لا يحتاج في بدايته إلى التجربة الثقافة السياسية، لأنها لم تعترف بالدولة الوطنية المتجذرة في التربة، وإنما تعترف بالدولة الأم، الأمة والتي لا تعترف بالحدود السياسية أو الحواجز الجغرافية، وأعتقد إذا قالوا ذلك، فهو اجتهاد.
*هل تنكّر البعض وخاصة المفكرين للدولة التي أصبحت بلا عقل يُفكّر؟
كان الترابي كالقمر، لا يريد بجانبه نجوماً، ولذلك كان يريد أن يكون الناس تبعاً له، وكان مع فكرة القائد الملهم الذي علاقته بالآخرين علاقة الراشد بالقُصّر فقط، لديه عبقرية في إخراج القرارات ليس مثل البشير، ويستطيع إقناع المؤسسة بما يًريد، ثم يُخرج القرار، ولكن في النهاية رحل الترابي وانتقلنا إلى المرحلة البشيرية.
*ولكن قياس الحكم بسنوات أليس إجحافاً؟
الإنقاذ شبِعت حكماً حتى تضخّمت وأصابتها التخمة، في أمريكا الحاكم يأخذ (8) سنوات، وهو السعيد المحظوظ مثل أوباما وكلنتون وبوش الأب الذي أخذ أربع سنوات ولكن أنت أخذت ثلاثين عاماً في الحكم.
*هل المفاصلة كانت بداية النهاية لحكم الإنقاذ؟
والله بداية نهاية طويلة خالص، قد تكون ثواني أو دقائق، قد تكون ساعات، ولكن بداية نهاية تأخذ عشرين عاماً أو ثلاثين عاماً هي كثيرة (أخذ ضحكة كبيرة)، وقال هذه ليست بداية نهاية وإنما بئر بلعت أموالاً.
*ولكن للأزمة السياسية الآن شواهد؟
لا لا هناك ضعف البنية الاجتماعية السودانية، والواحد يستغرب كيف ظل هؤلاء أكثر من عشرين عاماً مع انفصال جنوب السودان والهزات الكبيرة التي مرت بها الدولة، ومحاولات انقلاب ومع تدني الجنيه السوداني، هذا يدل على أن الدين أفيون الشعوب ناس تم تخديرهم باسم الدين، وبالتالي رغم أن البشير كان نشيطاً في التواصل الاجتماعي يحضر الزيجات والزفاف وغيرهما، ومهما تكرهه أو تحبه كثير من الناس تحب عرضته ورقصته وعفويته.
*ذكرت المجتمعات، ولكن البعض يرى أنه لولا الأزمة الاقتصادية لما خرج الشارع؟
الأزمة الاقتصادية هي المعيشة، وبالتالي هي الحياة، فماذا تفعل في ظل عدم وجود ظائف وانسداد اجتماعي وسياسي وانسداد في العلاقات الخارجية، واعتماد على الأمن والجيش، حيث كان الأمن تحت قيادة صلاح قوش، هو الجهاز التنفيذي يوزع الدقيق والبنزين، بالإضافة إلى تدهور الجنيه السوداني، ولذلك الاقتصاد السوداني قائم الآن على ثلاث ركائز، الأولى المغتربون، الركيزة الثانية العاملون في حقول الذهب، والركيزة الثالثة الرعاة، وهنالك ركيزة هامشية أخرى ولكن للأسف تعتبر ركيزة هامة هي الفساد، بمعنى كل ما هو في الدولة يبيع خدمات الدولة، وبالتالي إذا أردت أن تبيع عليك أن تدفع.
*كأنك تتحاشى الحديث عن الأحزاب السياسية ودورها في الأزمة وقدرتها على التعاطي مع الشارع؟
أين هذه الأحزاب؟ كان هنالك الذين يقولون الدين أفيون الشعوب، كان هناك تكسير سياسي، هل السياسة وُلِدت من داخل الوطني أم لا توجد سياسة؟ وقبل أن تتم الإطاحة بالإنقاذ، كان لا يمكن أن تقيم ندوة سياسية دون إذن، فالسياسة انتهت، وأصبحت (مافيش). الآن الحريق الذي حدث قبل فترة في القصر الجمهوري هو حريق مقصود ومُبيّت، لأنه يكشف علاقة القصر الجمهوري بالأحزاب وكل الأحزاب الهائمة الآن مجرد عملاء تدفع لهم نفقات دورهم وما خفي أعظم في الأوراق التي أحرقت في القصر أيام الانتفاضة.
*أليست هذه مبالغة في المشهد السياسي عندما يصبح عدد الأحزاب يفوق المائة؟
هي أحزاب مصنوعة بدليل أنها ليس لديها جماهير, أما المسؤولون عنها هم مستقطبون في الأجهزة الأمنية مثل (جوكية) سياسية كلهم عملاء وواجهات للمؤتمر الوطني.